عبد الجليل الشافعي : بيروت أم الرباط؟

7 أغسطس 2020
عبد الجليل الشافعي : بيروت أم الرباط؟

“كان جسمي ثقيلاً، كأنه أفرغ من مادته، وحُشيَ رصاصا أو حديداً”.

رواية بيروتيس، مدينة تحت الأرض، ص: 44.

في اللحظة التي حدث فيها الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، الانفجار الذي يذكرك بكارثة “تشيرنوبل” التي وقعت في أوكرانيا سنة 1986 زمن الحكم السوفياتي. كنت أتحدث مع أستاذ صديق من لبنان، من بيروت تحديدا، ويقطن قريبا من شارع الحمرا، الشارع المعروف بحياته الضاجَّة وجماله الجارح.

كيف عرفته؟ هل زرته؟

الجواب لا،

الجواب نعم.؟!

لم أزر لبنان من ذي قبل، ولم أتسكع في شوارعها فعليا، لكني، أعرفها، وزرتها. قد يقول قائل: ما هذا الخبل؟ أجيبه: فعلت ذلك عبر بساط الأدب، امتطيت ناقة السرد، وركبت طائرة الرواية، وقطعت تذكرة في باصات الطرب – وغنيت مع فيروز أغنية ‘عَ هدير البوسطة’ – والفن والإبداع الذي طالما ميز لبنان. . .

أليس الإبداع هو الجسر الذي يسمح لنا بالسفر نحو الآخر؟

الصديق الأستاذ، حين كنت أسمي له الأحياء والأماكن، دَهِشَ وسألني: هل زرت بيروت، هل أقمت بها؟ ابتسمت، وقلت له: إني سكنت في بيوت من ورق، وشوارع من حبر، وارتدت حانات ومراقص وشواطئ مشكلة من فخار الخيال، وهي بيوت وشوارع وحانات ومراقص وشواطئ للبناني حقيقي، مهندس كلمات، وحفار معنى وباحث آثار حريف وموثق كما لو كان من سلالة ” عبد الحميد الكاتب” كاتب الدولة الأموية. إنه الروائي: ربيع جابر. الرجل الذي سكنه لبنان ومزقته الحرب الأهلية، فلم يشفَ منها، إلا كتابة.

ترى هل شفي منها حقا؟

وأنا أتحدث مع صديقي: قال لي بدون مناسبة: هناك انفجار، إسرائيل، تقصف بيروت.!

لم أصدق، واستبعدت الأمر. ‘إسرائيل’ غاشية، ظالمة، استيطانية، سادية، كل هذا وأكثر. أي نعم، لكنها عاقلة . . . كيف تفعل ذلك؟

عبرت عن تضامني – هل يمكننا فعل شيء أكثر من التضامن؟ – وأنهينا الاتصال.

بعدها، نما في ذهني هذا السؤال سريعا، كما ينمو الفطر في الغابات الماطرة: أيهما أعرف أكثر، الرباط أم بيروت؟

السؤال، يبدو، غريبا، كما العالم، كما الدنيا. كما حدث الانفجار عينه، لكنه فعلا سؤال جاد.

لم أجد جوابا للوهلة الأولى، وحين تأملته قليلا، وجدتني أعرف بيروت أكثر من الرباط!

أنا الذي درس بالرباط وسكن في أحيائها الشعبية، وأخذ صورة أمام برلمانها الذي لا يجيد شيئا غير المصادقة على قرارات تنهك المغاربة وتئد شرانق الأمل، كلما أخذت في التشكل، وتجز بتلات الورود في كل مرة اتجهت نحو التبرعم بمنجل وعودها المختلة، القاتلة . . أنا الذي درَّست -قليلا- بثانوية الحسن الثاني وجلست بساحة الجولان بالساعات أتأمل الناس والسيارات والنساء كرجل سقط من نيزك فجأة، والتقطت صورا أمام الكنسية كما لو كنت سائحا له فائض مال ووقت وحرية . . . أنا الذي سبحت في شاطئها الذي يحضن نهر ‘الرَّقراق’ القادم من بعيد في مياسة أفعى تستوطن غابات حكايات الجدات، القادم من جبال يُعييك النظر، إذا ما أردت أن ترى قنتها المدببة كما الرماح . . . أنا الذي رأى النوارس تنزل من سمائها، وتقبَل أن تأكل من حاويات الأزبال، هي السَّمَكِيَّةُ سليقة، طبيعة، غدت تفضل بقايا المدينة وفتاتها، وتخلت بذلك عن رمزيتها، عن كونها نوارس حقيقية. صارت، هجينة. هي التي كانت شامةَ وصول للبحارة وعلامةً على النجاة والعودة للوطن وحضن الحبيبات المشتاقات والأمهات الفارغات أفئدتهن والآباء الذين تقوست ظهورهم بفعل حياة رديئة أكثر لا بفعل الزمن . . . هي التي طالما كانت تلعب دور المنارة! . . .

كل هذا أعرفه، لكني أعرف بيروت أكثر. وسبب هذه المعرفة يعود بالأساس، إلى قراءتي لروايات ربيع جابر، حولها. قرأت “بيروت مدينة العالم، بأجزائها الثلاثة” فعرفتها وعرفت تاريخها مذ كانت قرية صغيرة فوق ربوة مصورة، تحيط بها أشجار التوت والأحراش وتعيش على الفلاحة وإنتاج الحرير المستخرج من بطون دود القز، عرفتها عبر تتبع حياة شخصية ‘أحمد عبد الجواد البارودي’ وعائلته، تتبع حياة بيروت، عرفتها حين قرأت رواية “بيروتيس، مدينة تحت الأرض” الرواية التي يمتزج بها الغرائبي بالممكن، الفانتازي بالمعقول، وكأن الروائي تنبأ بهذا الانقلاب، انقلاب بيروت إلى مدينة أنقاض، إلى مدينة تحت-أرضية . . . ثم قرأت رواية “الاعترافات” ورواية “يوسف الإنجليزي”، وغيرهما، فأدركت أن بيروت مدينة منذورة للجمال والفن والحياة، منذورة للألم والموت والوجع والحروب ! . . .

وجدتني أعرف بيروت أكثر من الرباط، وهذا ما يدفعني للتساؤل: لماذا لم يستطع كتابنا المغاربة، أن يكتبوا مدنهم/بلدهم، بنفس الحرفية والجمال والإحساس والشاعرية والصدق التي كتب بها ربيع جابر بيروت في أكثر من رواية، التي كتب بها حيدر حيدر دمشق في رواية “الزمن الموحش”، التي كتب بها نجيب محفوظ مصر والقاهرة في أكثر من عمل روائي، التي كتب بها خيري شلبي بادية وصعيد مصر في أكثر من منجز سردي، التي كتب بها محمد المنسي قنديل تاريخ مصر منذ الفراعنة إلى العصر الحديث، في رواية “يوم غائم في بر الغربي” التي كتب بها غسان كنفاني حيفا، في رواية “عائد إلى حيفا”؟ وغيرهم كثير. وهنا، وجب التنبيه إلا أننا، لا نغفل بعض النصوص المغربية التي حاولت فعل ذلك، مثل رواية المصري، لمحمد أنقار، حول تطوان، وثلاثية زهرة الآس، لمحمد عز الدين التازي عن فاس، وقبله، عبد الكريم غلاب، خاصة، في رواية المعلم علي، والزهرة رميج، في روايتها عزوزة، التي ركزت على البادية المغربية . . .

ونشير أيضا، إلى أن التساؤل هنا، ليس حكرا على الأعمال الروائية فقط، بل يشمل الأعمال الشعرية أيضا.

عبد الجليل الشافعي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

باستمراركم في تصفح هذا الموقع، نعتبر أنكم موافقون على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" أو التقنيات الأخرى المماثلة لها والتي تتيح قياس نسب المتابعة وتقترح عليكم خاصيات تشغيل ذات صلة بمواقع التواصل الاجتماعي أو محتويات أخرى أو إعلانات قائمة على خياراتكم الشخصية

موافق