عبد العالي الجابري
لا أحد ينكر أن الوضعية متأزمة في لبنان. إذ مع استمرار الازمة اصبحت البلاد تعيش انقساما بين قطبين متناقضين ، تتسع الهوة بينهما يوما بعد يوم… فمن جهة مؤيدي “الحركة الحرة” ممثلين في التيار الوطني الحر للرئيس ميشال عون ، وحزب أمل الشيعي للرئيس نبيه بري ، وحزب الله…. ومن جهة أخرى فئة الذين يعانون من “الحصار” مؤيدين من طرف تيار المستقبل للرئيس السني سعد الحريري والقوات المارونية اللبنانية سمير جعجع والحزب الاشتراكي التقدمي للدروز وليد جنبلاط.
وتتميز هذه التظاهرات بأنها شاملة، عابرة للطوائف والمناطق ومتفاوتة في أعمار المشاركين فيها والطبقات الاجتماعية التي ينحدرون منها. وكلها تُجمع من حيث المزاج المنتشر في التظاهرات على إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة وتجاوز نظام المحاصصة الطائفية وتقسيم المناصب والمنافع العامة المعمول به منذ استقلال لبنان وإعلان الميثاق الوطني عام 1943.
نتج النظام السياسي اللبناني القائم عن تسوياتٍ إقليمية ودولية كان هدفها الرئيس إنهاء الحرب الأهلية التي امتدت خمسة عشر عامًا؛ أي إن هذا النظام لم يكن نتاج تسويات داخلية، أو اتفاق اللبنانيين عليه، بل كان مفروضًا عليهم من الخارج عبر وصاية النظام السوري، وبرعاية أميركية – سعودية عُبِّر عنها في “اتفاق الطائف”.
ومثّل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير 2005، ضربة كبيرة لهذا النظام. ذلك أنه أدى إلى نهاية نظام الوصاية السورية المباشرة، واستبدالها بانقسام سياسي بين تحالف “8 آذار / 8 ماي” المدعوم من طهران ودمشق وتحالف “14 آذار / 14 ماي” المدعوم من واشنطن والرياض، قبل أن يحسم “حزب الله” هذه المواجهة السياسية عسكريًا في “اجتياح” بيروت في ماي 2008.
نتيجة لذلك، دخل لبنان حالة من التوتر السياسي والأمني استمرت في الفترة 2011-2013، قبل أن تتدخل القوى الخارجية لتفرض الاستقرار فيه خوفًا من أيّ تداعيات سلبية على دور لبنان الذي يستضيف عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين وقواتٍ دوليةً في جنوبه، فضلًا عن الحاجة إلى إدارة النزاع البحري وحلّه بين لبنان وإسرائيل حول استغلال حقول الغاز المكتشف حديثًا حينها في شرق المتوسط. تبلورت هذه المظلة الدولية عام 2014 برعاية أميركية – سعودية – إيرانية أسفرت عن إسناد رئاسة الحكومة إلى شخصية محايدة نسبيًا هي تمام سلام. وفي عام 2016 تجددت التسوية بتوافق أميركي – إيراني لم ترض عنه السعودية، وأدى إلى إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان وانتخاب الجنرال ميشال عون للرئاسة مقابل تولّي سعد الحريري رئاسة الحكومة. لكن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فرض العقوبات عليها واستهداف حليفها حزب الله، والتصعيد السعودي ضد إيران في اليمن، وغيرها، في بداية مرحلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كل ذلك وضع ضغوطًا كبيرة على لبنان، وانعكس على النظام السياسي والاقتصادي، على نحوٍ أدى إلى تفجر الاحتجاجات.
مثل أحد أهم عناوين احتجاجات لبنان في تعرية الفشل البنيوي لنظام المحاصصة الطائفية باعتباره نظامًا ريعيًا يتم فيه اقتسام السلطة والثروات والاستئثار بها وفق معايير لا تعتمد الكفاءة والأهلية من بينها. ومنذ عام 2005 يعيش لبنان حالة من الشلل السياسي المستمر نتيجة هذا الصراع على اقتسام الموارد والسلطة، مما حال دون إقرار أيّ إصلاحات مهمة. وأغلقت الاضطرابات الإقليمية الباب أيضًا أمام مبادلات لبنان التجارية مع سورية والعراق والأردن وبلدان الخليج، ما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في البلاد وانكشاف المشاكل البنيوية في الاقتصاد اللبناني وسياساته المالية. ويتجاوز الدَيْن العام في لبنان حاليًا حاجز 85 مليار دولار؛ أي ما يمثّل 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومعظم هذا الدين مستحق للمصارف اللبنانية التي لديها نفوذ واسع النطاق على الطبقة السياسية…. ومنه ، ضعف الطبقة السياسية أمام قوة المصارف المالية ادى على ما يبدو الى استحالة القيام بأي عملية لمكافحة الفساد في البلاد. وهو أحد اهم مطالب الحراك الشعبي….
وسعيا لتخطي هذه العوائق أعلن جبران باسيل (التيار الوطني الحر) عزم جميع قادة حزبه للاعلان عن حساباتهم المصرفية. وتقديمه لمشروع قانون للتحقق من أصول موظفي الخدمة المدنية، فإن العديد من العقبات تجعل هذه التدابير غير عملية (يُحظر رفع السرية المصرفية في هذه الظروف ، ولا يُقال شيء عن الحسابات المصرفية لأقارب الزعماء السياسيين وما إلى ذلك….).
في الواقع ، الفساد في لبنان لا ينتهك القانون ، بل على العكس ، القانون هو الذي ينظم الفساد. على سبيل المثال ، هناك ضرائب على الواردات ، لكن لا أحد يدفعها لأن القانون يمنح إعفاءً للمجتمعات الدينية السبعة عشر المعترف بها. لذلك يكفي إعلان الاستيراد من قِبل ديني حتى لا يدفع الضريبة. وهكذا …..
تفاقمت أزمة السيولة التي غذت حركة الاحتجاج في 17 أكتوبر. لا تسمح البنوك إلا بالسحوبات بالليرة اللبنانية وبمبلغ لا يتجاوز 500 دولار في الأسبوع. جميع وكالات التصنيف (فيتش ، موديز وستاندرد آند بورز) خفضت مركز المؤسسات اللبنانية في تصنيفاتها.
محافظ البنك المركزي رياض سلام اعلن منذ فترة أن البلاد لديها 38 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي ، لكن وكالة موديز[1] l’agence Moody’s تدعي أنها غير صحيحة ولديها من 5 إلى 10 مليارات دولار فقط…. كما ان لبنان سدد في 28 نوفمبر الماضي، 1.5 مليار دولار كسندات باليورو ويبدو أنه غير قادر على دفع أقساطه القادمة… مما يوحي باحتمال حدوث ثقب في جميع الحسابات المصرفية اللبنانية.
يتم حاليا اتخاذ إجراءات افتحاصية ضد الثروة الشخصية لرئيس الحكومة ، سعد الحريري، حيث تم فتح دعوى قضائية ضد مصرفه الشخصي (بنك ميد) لإجباره على سداد مليار دولار لأحد عملائه….. من جهة اخرى اتهمته السلطات السعودية في وقت سابق حسب بعض وسائل الاعلامها، بعدم تسديد مبالغ فلكية للدولة السعودية. لكن منذ فترة لم يعد احد يتحدث عن هذا الدين السحيق…
وفقًا لمركز الفكر اللبناني “Triangle” ، فإن النظام المالي اللبناني بأكمله يشكل عملية احتيال ابتكرها مدير البنك المركزي وفقًا لمخطط بونزي… وكشفت دراسة بالغة الدقة أنجزها كل من سامي حلبي وجاكوب بوسوال Sami Halabi et Jacob Boswall كيف أنه بعد تحقيق الربح طوال عقود، يرفض السياسيون والمصارف الآن تحمل نصيبهم العادل من الخسائر لإنقاذ الاقتصاد اللبناني .
الدراسة تشير الى انه في قلب الاقتصاد اللبناني، يقع نظام مالي استفاد منه السياسيون والابناك والمصارف وأقلية من أصحاب النفوذ لسنوات… الدليل على ما تطرحه هذه الدراسة أمر معقد ولكن ثمة تفسير بسيط: أبرم مصرف لبنان المركزي صفقات مع المصارف الحكومية والمصارف التجارية المحلية لجذب العملات الأجنبية عن طريق تقديم أسعار فائدة مرتفعة ومتزايدة على الدين العام، في مقابل ودائع بالعملات الأجنبية.
يعرف معظم اللبنانيون، أن هذه الوضعية جعلت دين الدولة اللبنانية يبلغ قرابة مرة ونصف حجم الاقتصاد البالغ 55 مليار دولار. ولكن قلة فقط هم الذين يعرفون أن المصرف مدين للبنوك أيضًا بمبلغ يعادل ضعف حجم الاقتصاد. فكيف تمكن لبنان من مراكمة كومة ديون بقيمة 180 مليار دولار تساوي 3.5 أضعاف حجم اقتصاده من دون أن يلاحظ أحد ذلك منذ زمن طويل؟
إذن، جاذبية البنوك اللبنانية تنبع من ارتفاع سعر الفائدة على الودائع بالدولار. لكن هذا السعر يتم تسديده فقط نظرًا لوجود ودائع جديدة (يسدد الدين القديم مع فوائده انطلاقا من تورط البنك المركزي في دين جديد مقابل فوائد اعلى : نظام بونزي)…. مدير البنك المركزي ، رياض سلامة ، رجل ثقة الراحل رفيق الحريري ، الذي تولى منصبه منذ عام 1993 ، يحتفل به عالمياً باعتباره واحداً من أفضل مديري البنوك المركزية. يعمل نظامه فقط لأنه يفيد أمراء الحرب التاريخيين في البلاد.
لم
يتم ملاحظة مثل هذا النظام في أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية ، ما عدا في
ألبانيا في التسعينيات ، ومع ذلك ، فإن هذا الاحتيال قد يشكل اختلاسا لأموال
الدولة، مما يدفع الى الاعتقاد ان تم تصميم هذا النظام لخدمة السياسيين والابناك
والمصارف وأقلية من أصحاب النفوذ، على حساب دافعي الضرائب.
[1] وكالة التصنيف المالي، و هي منظمة مسؤولة عن تقييم مخاطر عدم سداد دين أو قرض من طرف دولة أو شركة أو سلطة محلية ، وخدماتها غير مجانية حيث يدفعه مقدم الطلب للحصول على تصنيفه المالي، وهي تستعمل في ذلك أحدث الاساليب و الأدوات والمنهجيات الخاصة بتقدير المخاطر والعسر المالي.