الاستاذ محمد أكرم الندوي : جهود المرأة في الحديث النبوي الشريف

29 مارس 2023
الاستاذ محمد أكرم الندوي : جهود المرأة في الحديث النبوي الشريف

ألقى الأستاذ محمد أكرم الندوي أستاذ باحث في أوكسفورد يوم الجمعة 11 رمضان 1437 (17 يونيو 2016) بين يدي أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره’ درس من الدروس الحسانية الرمضانية .

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

مولاي أمير المؤمنين

السلام على مقامكم المنيف ورحمة الله وبركاته، أتقدم إلى جلالتكم بالشكر على دعوتي للمشاركة في هذه الدروس، التي هي مائدة علم رائق متين، يتغذى منها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، فجعل الله أجرها في ميزان حسناتكم إن شاء الله. وأشكر جنابكم على تشريفي بإلقاء هذا الدرس، وعسى أن يكون فيه ما يرضي الله وينفع المؤمنين.

مولاي أمير المؤمنين

إن حديث جدكم المصطفى، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، هو المصدر الثاني، بعد القرآن الكريم، لأحكام الإسلام وهديه وأخلاقه، في جميع المجالات، وإذا كان القرآن قد وصل إلينا محفوظًا بحفظ الله من كل تبديل أو تغيير، فإن الحديث النبوي الشريف، قد تطلب من المسلمين التحقق من روايته وأسانيدها، فابتكروا من أجل ذلك علما عظيما قائما بذاته، وقد اشتهر المحدثون الرواة من الرجال على الخصوص، وحيث إنه كان للنساء قدم راسخة في هذا الشأن فقد وفقني الله للاهتمام بنساء الحديث، وأنعم علي أن أتعايش برهة من الزمان مع كتب الحديث والتراجم والسير والتاريخ، ألتقط منها تراجم هؤلا النساء المباركات، فتجمع لدي – والحمد لله – تراجم أكثر من عشرة آلاف امرأة في أكثر من أربعين مجلدة، أسميته (الوفاء في أسماء النساء: تراجم نساء الحديث النبوي الشريف)، وهذا البحث هو ما سأعمل على تقديم فكرة عنه في هذا الدرس، إن شاء الله، خدمة للحقيقة، وإنصافًا للمرأة، وإظهارا لهذا الدين الحنيف.

تلقت النساء الحديث النبوي الشريف وحملنه وروينه مع إتقان وضبط في التلقي والأداء، وفقه لمضامينه وتطبيقا لها في حياتهن ومجتمعاتهن، ولم يفرق العلماء بين الرجل والمرأة في شأن الحديث والفقه وعامة العلوم، يقول الإمام الشوكاني: لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه ردَّ خبر امرأة لكونها امرأة، فكم من سنة قد تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة، وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة، ولقد عرف عد كبير من الرجال بالكذب في الحديث أو الاتهام به، ولكن النساء تميزن عن الرجال في ذلك، يقول إمام الجرح والتعديل الحافظ شمس الدين الذهبي: وما علمت من النساء من اتهمت ولا من تركوها.

حفظهن للحديث عن ظهر القلب:

حفظت النساء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حفظه الرجال، وكانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من الصحابيات يعلمن أحاديثهن عن ظهر القلب، وهن المكثرات، فقد بلغ مسند عائشة ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، وفيها الأحاديث الطوال، وهذه فاطمة بنت قيس التي حفظت حديث تميم الداري الطويل في أمر الجساسة، وسمعته مرة واحدة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روته مرارًا لتلاميذها، وقد ذكر الإمام الطبراني عدة أحاديث للنساء في كتابه الأحاديث الطوال.

وهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو من أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، أخذت منه بنته حديثه كله عن ظهر الغيب، قال أبو بكر بن أبي داود: كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، وذكر أنه زوجها من تلميذ له، يقول: ثم دخلتُ بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب اللّه، وأعلمهم بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج، وأخرج أبو نعيم أن زوجها لما أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، قالت له: إلى أين تريد؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلس أُعلّمك علم سعيد.

وكذلك بنت الإمام مالك أخذت عن أبيها حديثه، حتى حفظت الموطأ عن ظهر الغيب، وهو أفضل ما ألف في الحديث وفقهه إلى ذلك الوقت، قال الزبير: كان لمالك ابنة تحفظ علمه، يعني الموطأ، وكانت تقف خلف الباب، فإذا غلط القارئ نقرت الباب فيفطن مالك، فيرد عليه.

وقال الحافظ السخاوي في ترجمة عائشة ابنة العلاء أبي الحسن الكناني القاهرية الحنبلية المتوفاة سنة أربعين وثمان مائة: كانت مستحضرة للسيرة النبوية، تكاد أن تذكر الغزوة بتمامها، ذاكرة لأكثر الغيلانيات وغيرها من الأحاديث، حافظة لكثير من الأشعار سيما ديوان البهاء زهير، سريعة الحفظ، وقال البقاعي أيضًا في ترجمتها: وتحفظ شعرا كثيرا، مرت على ديوان البهاء زهير ومصارع العشاق والسيرة النبوية لابن الفرات وسلوان المطاع لابن ظفر فكانت تحفظ غالبها وتذاكر به.

كتابتهن للحديث:

إلى جانب حفظهن للحديث عن ظهر الغيب فقد عرفن كذلك بتقييده وضبطه كتابة، ومن النساء اللاتي عرفن بالكتابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، الشفاء بنت عبد الله، المهاجرة القرشية العدوية، ومنها تعلمت حفصة أم المؤمنين الكتابة بإقرار من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر: وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتيها، ويقيل عندها في بيتها، وكانت قد اتخذت له فراشا وإزارا ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها حتى أخذه منهم مروان، وقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علّمي حفصة رقية النملة كما علَّمتِها الكتاب، وكذلك عامة أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة وكثير من الصحابيات كن معروفات بالكتابة، وأما من بعدهن من التابعيات فقد أخرج الإمام البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن موسى بن عبد الله، قال: حدثتنا عائشة بنت طلحة، قالت: قلت لعائشة، وأنا في حجرها، وكان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتابونني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخون فيهدون إلي، ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة: يا خالة هذا كتاب فلان وهديته، فتقول لي عائشة: أي بنية، فأجيبيه وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، فتعطيني.

وتفشت الكتابة منذ القرن الأول بين النساء تفشيًا كبيرًا، وتؤكد تراجم النساء أنهن كن يقبلن على تعلم الكتابة، بل ويبرَعْن فيها منذ الطفولة، حتى إن الجواري والإماء تقدمن تقدمًا كبيرًا في الكتابة، والنساء اللاتي تعلمن الكتابة يبلغ عددهن الآلاف، وعرفن بضبط بالغ وإتقان كبير، فالشيخة العالمة الفاضلة المسندة، أم الكرام كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية، المجاورة بحرم اللّهالمتوفاة سنة خمس وستين وأربع مائة، قال الذهبي في ترجمتها: وكانت إذا روت قابلت بأصلها، ولها فهم ومعرفة مع الخير والتعبد، وقال الصفدي: كانت تضبط كتابها، قال أبوالغنائم النرسي: أخرجت كريمة إليّ النسخة بالصحيح، فقعدتُ بحذائها، وكتبتُ سبعة أوراق، وقرأتُها، وكنت أريد أن أعارض وحدي، فقالت: لا، حتى تعارض معي، فعارضتُ معها.

وهذه أم محمد زينب بنت مظفر بن أحمد بن أبي البركات الهروي، أم أحمد، والدة أحمد ومحمد ابني عبد اللّه بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي المتوفاة سنة تسع وسبع مائة، سمعت من اليلداني، وخطيب مردا، وداود خطيب بيت الأبّار وطائفة، وأجاز لها السبط، كانت تكتب، وقابلت صحيح البخاري مع زوجها.

وقال ابن كثير في ترجمة الحافظ علم الدين البرزالي: وكتبت ابنته فاطمة (المتوفاة سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة) البخاري في ثلاثة عشر مجلدا، فقابله لها، وكان يقرأ فيه على الحافظ المزي تحت القبة، حتى صارت نسختها أصلا معتمدا يكتب منها الناس.

أخذ الأئمة عن النساء:

وكفى بالنساء فخرًا أن كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعلام الأئمة والفقهاء على مر القرون والأعصار أخذوا عنهن الحديث والعلم، ومنهم من أكثر جدا في الأخذ عن النساء، فقد جاء في ترجمة مسلم بن إبراهيم الإمام الحافظ الثقة مسند البصرة أبي عمرو الأزدي الفراهيدي المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين أنه روى عن سبعين امرأة، وروي مثل ذلك عن هشام بن عبد الملك الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام أبي الوليد الطيالسي المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين أنه روى عن سبعين امرأة، وروى الحافظ ابن عساكر المتوفى سنة إحدى وسبعين وخمس مائة عن بضع وثمانين امرأة، وعمل معجما خاصا بهن، وترجم عصريه ورفيقه أبو سعد السمعاني المتوفى سنة اثنتين وستين وخمس مائة لتسع وستين امرأة، وروى الحافظ أبو طاهر السلفي المتوفى سنة ست وسبعين وخمس مائة عن عشرات من النساء.

وممن روى عن النساء الإمام ابن تيمية المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبع مائة وحدث عن بعضهن في الأربعين له، والحافظ أبو الحجاج المزي المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبع مائة، وخرَّج عن بعضهن في (تهذيب الكمال)، والإمام الذهبي المتوفى سنة ثمان وأربعين وسبع مائة، وخرج عنهن في (معجم الشيوخ) له، وفي (تاريخ الإسلام)، و(سير أعلام النبلاء)، والحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة اثنتين وخمسين وثمان مائة وذكرهن في معجمه، وترجم لهن في (الدرر الكامنة) و(إنباء الغمر)، ونجم الدين ابن فهد المتوفى سنة خمس وثمانين وثمان مائة وترجم لهن في معجمه، والحافظ شمس الدين السخاوي المتوفى سنة اثنتين وتسع مائة، وترجم لهن في (الضوء اللامع)، والحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسع مائة وترجم لهن في معجمه وغيره من مؤلفاته، وخرج الأحاديث عنهن.

وأكثر ما ورد في الأخذ عن النساء ما ذكره الذهبي في ترجمة الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن محمود ابن النجّار المولود سنة ثمان وسبعين وخمس مائة والمتوفى سنة ثلاث وأربعين وست مائة: قال ابن الساعاتي: اشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، وأربع مائة امرأة.

رواية أزواجهن عنهن:

وقد بلغ من مكانة بعض هؤلاء النساء في العلم أن أزواجهن تلمذوا عليهن ورووا عنهن ورجعوا إليهن في حل المسائل العلمية العويصة والدقائق الفقهية.

فهذه فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوّام من كبار المحدثات والفقيهات في عصر التابعين، وقد روت علمًا جمًّا وأحاديث كثيرة، خاصة عن جدتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وروى عن فاطمة أئمة من أمثال محمد بن إسحاق صاحب المغازي، وأكثر ما روي عنها من طريق زوجها هشام بن عروة التابعي الجليل وشيخ كثير من الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، وشعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وجماعة.

وفاطمة بنت محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي مؤلف (التحفة)، وهي زوجة الإمام أبي بكر بن مسعود الكاساني صاحب (البدائع والصنائع في ترتيب الشرائع)، العالمة الفاضلة، قال ابن العديم في ترجمتها: حكى والدي أنها كانت تنقل المذهب نقلاً جيدًا، وكان زوجها الكاساني ربما يهم في الفتوى فترده إلى الصواب وتعرفه وجه الخطأ، فيرجع إلى قولها.

كثرة مروياتهن:

ترجمت في كتابي لألفي صحابية تقريبًا، ويبلغ عدد الصحابيات التي دونت أحاديثهن في الكتب الستة مائة وثلاثين صحابية، منهن من ليس لها إلا حديث واحد، ومنهن من زاد حديثها المئات، أخرج البخاري عن إحدى وثلاثين صحابية في جامعه الصحيح، ومسلم عن ست وثلاثين صحابية في جامعه الصحيح، وأبو داود عن خمس وسبعين صحابية في سننه، والترمذي عن ست وأربعين صحابية في جامعه، والنسائي عن خمس وستين صحابية في المجتبى، وابن ماجه عن ستين صحابية في سننه.

ويبلغ عدد التابعيات وبقية نساء القرن الثاني ألفًا ومائتي امرأة تقريبًا، وإنما حظيت أحاديث مائة وثلاث منهن بمكان في الكتب الستة.

ويبلغ مجموع أحاديث النساء في الكتب الستة ألفين وسبعمائة وأربعة وستين حديثًا، منها ألفان وخمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا للصحابيات، ومائتان وخمسة وعشرون حديثا لسائر الراويات من غير الصحابيات.

إن أحاديث النساء في الكتب الستة تختلف مضامينها اختلاف مضامين أحاديث الرجال، من العقائد والعبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية، والإمارة والجهاد والسنن والآداب وغيرها، منها ما أخرجه أصحاب الكتب الستة، ومنها ما لم يخرجوه، وأخرجه أصحاب الدواوين الأخرى، ومنها ما اشتركت النساء في نقله مع الرجال، ومنها ما تفردت النساء بروايته، وكانت أحاديثهن التي تفردن بها مرجعا في الاستدلال الفقهي ووضع القواعد والأصول، فكم من حكم قضي به بناء على حديث امرأة، وكم من سنة اتبعت ووراءها امرأة.

ومن الأحاديث التي لا تعرف إلا عن النساء حديث بريرة وهو عمدة في بابه، استخرج منه الفقهاء مسائل كثيرة، قد تكلم على حديثها ابن خزيمة وغيره بفوائد جمة، وألف شيخ المالكية أبو الحسين ابن زرقون كتاب فقه حديث بريرة، قال الحافظ ابن حجر: وقد جمع بعض الأئمة فوائد هذا الحديث، فزادت على ثلاث مائة، ولخّصتها في فتح الباري.

ومن الأحاديث التي تفردت بها النساء، حديث سبيعة الأسلمية في شأن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وكان الفقهاء من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم فقهاء التابعين من بعدهم يرجعون إلى حديثها كلّما نشأ بينهم اختلاف حتى أجمعت الأمة على الإفتاء بمضمون حديثها.

روى سليمان بن يسار أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عبّاس اجتمعا عند أبي هريرة، وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال، فقال ابن عبّاس: عدّتها آخر الأجلين، وقال أبوسلمة: قد حلّت، فجعلا يتنازعان ذلك، قال: فقال أبوهريرة: أنا مع ابن أخي (يعني أبا سلمة)، فبعثوا كريبا (مولى ابن عبّاس) إلى أم سلمة يسألها عن ذلك، فجاءهم فأخبرهم أن أم سلمة قالت: إن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، وإنها ذكرت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، فأمرها أن تزوّج.

وروي عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق وعمرو بن عتبة أنهما كتبا إلى سبيعة بنت الحارث يسألانها عن أمرها، فكتبت إليهما: إنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمسة وعشرين يومًا، فتهيأت تطلب الخير، فمر بها أبوالسنابل بن بعكك، فقال: قد أسرعت، اعتدي آخر الأجلين، أربعة أشهر وعشرًا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله استغفر لي، قال: وفيم ذاك؟ فأخبرته، فقال: إن وجدت زوجًا صالحًا، فتزوجي.

قال الإمام الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الحامل المتوفى عنها زوجها إذا وضعت فقد حل التزويج لها وإن لم تكن انقضت عدتها، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم تعتد آخر الأجلين، والقول الأول أصح، وقال الإمام النووي: أخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف.

وروت النساء كذلك الأنواع المختلفة من المصنفات الحديثية من الجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم والأربعينات، والأجزاء والمسلسلات، ومن طريف الأخبار في رواية المسلسلات ما أخبرنا شيخنا محمد بن علوي المالكي أن الشيخ محمد يسين الفاداني سمع الكثير من المسلسلات من شيخته المسندة أمة الله بنت عبد الغني الدهلوية المتوفاة في المدينة المنورة سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وألف بأعمالها القولية والفعلية، فذكر لي موقفا طريفا أنها كانت معمرة في السن وروت لهم الحديث المسلسل بالقبض على اللحية وفيه كل راو يروي الحديث وهو قابض على لحيته فقالت: حدثنا أبي وهو قابض على لحيته ولما حدثت هي به فقبضت على موضع اللحية، حتى يتم التسلسل.

مجالسهن للرواية والتدريس:

وكانت النساء يعقدن مجالسهن للتحديث والرواية في منازلهن ومنازل غيرهن، وعامة المساجد، والمدارس، والأمكنة الأخرى من الرباطات والبساتين حيث تيسر لهن ذلك، وما رأينا أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الفقهاء والمحدثين رأوا في ذلك بأسًا، أو حاولوا الحجر عليهن أو التضييق عليهن، وكانت مجالسهن يحضرها الفقهاء والعلماء الكبار، وأقتصر هنا على بعض الأمثلة لتدريسهن في المساجد الثلاثة، فهذه أم محمد سارة بنت عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد اللّه بن سعد بن مفلح بن هبة اللّه بن عمرو المقدسية، قال الحافظ البرزالي في ترجمتها: قرأت عليها بطريق الحجاز في اللجون من عمل الكرك، وفي الحجر (بالحرم الشريف).

وهذه الشيخة المُسندة الصالحة الكاتبة أم الخير وأم محمد فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البعلبكي المعروف بالبطائحي المتوفاة سنة إحدى عشرة وسبع مائة، قال الذهبي في ترجمتها: وسمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي، وصحيح مسلم من أبي الثناء محمود بن الحصيري شيخ الحنفية، وهي آخر من روى عنه وفاة، وسمعت من أبي القاسم بن رواحة، وطال عمرها وروت الكثير، قد درست الحديث في المسجد النبوي الشريف، قال ابن رشيد السبتي: قدمتْ في ركب الشام زائرة وحاجّة، لقيتها بمسجد المصطفى صلى اللّه عليه وسلم، وقرئ عليها، وهي مستندة إلى جانب رواق الروضة الكريمة المحمدية على ساكنها السلام تجاه رأس المصطفى الكريم.

ودرّست الشيخة العالمة زينب بنت نجم الدين إسماعيل بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسية، زوج قاضي القضاة الشيخ تقي الدين سليمان بن حمزة، الحديث في طريقها إلى الحج، وفي المسجد النبوي الشريف تجاه الحجرة المعظمة الشريفة النبوية، وسمع الحافظ خليل بن كيكلدي العلائي عليها بالعلا وهما في الطريق إلى الحج جزءا من أمالي أبي إسحاق الهاشمي، وخرج عنها في كتابه بغية الملتمس وفي تساعيات حديث مالك بن أنس، وسمع جميع حديث ابن شاذان عليها يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة عشرين وسبعمائة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الحجرة المعظمة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

وممن درس في المسجد النبوي من النساء: الشيخة أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر بن أبي بكر بن شكر المقدسية، فقد قرئ عليها (جزء فيه ستة مجالس من أمالي أبي بكر محمد بن سليمان بن الحارث الباغندي الواسطي)، في ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبعمائة بالمسجد الشريف النبوي تجاه الحجرة المعظمة.

وكذلك درّست النساء في المسجد الأقصى، منهن التابعية الجليلة أم الدرداء رحمها الله تعالى، والشيخة الصالحة المعمرة أم محمد هدية بنت علي بن عسكر البغدادي من نساء القرن الثامن الهجري، وقرأ الحافظ العلائي (الأجزاء العشرة المخرجة من حديث الرئيس أبي عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد بن أحمد بن محمود الثقفي) على أم محمد زينب ابنة أحمد بن عمر بن شكر بالمسجد الأقصى.

وأختم كلمتي بما ذكره الذهبي في ترجمة الشيخة العالمة الفقيهة، الزاهدة، القانتة سيّدة نساء زمانها، الواعظة، أم زينب فاطمة بنت عبّاس البغدادية المتوفاة سنة أربع عشرة وسبع مائة: انتفع بها خلق من النساء، وتابوا، وكانت وافرة العلم، قانعةً باليسير، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، وأمر بالمعروف، انصلح بها نساء دمشق، ثم نساء مصر، وكان لها قبول زايد، ووقع في النفوس، وقال الذهبي: انصلح بها نساء دمشق، وبصدقها في تذكيرها، وقناعتها باليسير، وقد زرتها، وأعجبني سمتها وتخشعها، وكانت تدري الفقه جيدا، وكان الشيخ تقي الدين يتعجب من علمها وذكائها، ويثني عليها كثيرًا، ثم تحولت بعد السبع مائة إلى مصر، وبعد صيتها، وانتفع بها نساء القاهرة، وقال ابن كثير: وهي التي ختمت نساء كثيرًا القرآن، منهنّ أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب، رحمهنّ اللّه وأكرمهنّ برحمته وجنته آمين، وقال ابن كثير: كانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال، وقال ابن كثير: وقد سمعت الشيخ تقي الدين بن تيمية يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرًا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها.

مولاي أمير المؤمنين

إن عالم النساء المحدثات الذي قمنا بإطلالة سريعة على بعض جوانبه الفيحاء، يبرز مكانة النساء في أمة الإسلام، إبرازا ناصعا مشرقا، قد لا تبلغ قدر حجيته الأدلة الأخرى، ذلك لأن حمل الحديث النبوي الشريف، والائتمان عليه، ليس مسألة تنحصر في حدود العلم، بل هو أمر  عظيم ومسئولية جسيمة، وقد رأينا ما كان للنساء فيه من دور، كما كان للرجال دور، وقد تميز سلوك النساء، كما ذكرنا عن بعض قمم العلماء الرجال، تميز بالصدق التام والبعد عن الافتعال والكذب الذي شاب نقل عدد من الرجال للحديث، وكفى النساء ذلك فخرا ورفعة ومقاما، ثم إن قيام النساء بهذا الدور، لم يكن من وراء الحجاب أو في داخل الخدور، بل كان بالمشاركة الفعلية في معترك الحياة الذي فيه يتحقق الأخذ والعطاء، ولاسيما بالتصدي للتدريس في أكثر المنابر هيبة وقدسية، كما في المساجد التي لها عند المسلمين حرمة خاصة. كل ذلك كان اقتدارا في الأخلاق من جهة والعلم والضبط من جهة أخرى، وقد أوردنا أمثلة من اعتراف أكابر العلماء الرجال بهذا الإسهام اعترافا بعيدا عن كثير من الأفكار السلبية التي تروج اليوم حول المرأة حتى من داخل الإسلام.

أما في وقتنا هذا، فإن بلدكم، يا مولاي، يوفر للنساء فرص الاضطلاع بمثل ما كان لسلفهن من صالحات المحدثات في التاريخ، ولا يستغرب من المملكة المغربية عنايتها بالحديث الشريف ومقاليد أمورها بيد أسرتكم الشريفة، فمن تميز المملكة بهذه العناية تنظيم المجالس الحديثية في رمضان أمام الملوك من أسلافكم، ومنها نمت شجرة هذه الدروس الحسنية المباركة، ومنها ما رأيناه في دار الحديث الحسنية من إقبال الطالبات على دراسة علوم الحديث والتخصص فيها، ومنها ما أمرتم به يا صاحب الجلالة من إحداث جائزة سنوية لأهل الحديث تحمل اسمكم الشريف، وكان ممن فاز بها منذ ثلاث سنوات المحدثة السيدة بهية القطبي التي وافاها الأجل هذا العام، ولنا منها سماع وإجازة والحمد لله. فجزاكم الله يا جلالة الملك عن الإسلام خيرا وأجزل لكم الثواب عن كل ما تقومون به من المكرمات، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

باستمراركم في تصفح هذا الموقع، نعتبر أنكم موافقون على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" أو التقنيات الأخرى المماثلة لها والتي تتيح قياس نسب المتابعة وتقترح عليكم خاصيات تشغيل ذات صلة بمواقع التواصل الاجتماعي أو محتويات أخرى أو إعلانات قائمة على خياراتكم الشخصية

موافق

This will close in 0 seconds