الاستاذ سعد بن ثقل العجمي : مسألة الاحتجاج بفهم السلف

10 أبريل 2023
الاستاذ سعد بن ثقل العجمي : مسألة الاحتجاج بفهم السلف

نص الدرس الحسني حول مسألة الاحتجاج بفهم السلف للأستاذ سعد بن ثقل العجمي 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحجة البالغة الباهرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بالبراهين الدامغة القاهرة، وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار، وسلّم تسليماً كثيراً.

مولاي صاحبَ الجلالة أميرَ المؤمنين محمد السادسَ أيدكم الله ونصركم وسدد في صالح الأعمال خطاكم.

أتشرف بإلقاء هذا الدرس أمامكم وأنا واثقٌ أنه يدخل في باب ما تحرصون عليه أشدَ الحرص من توضيح سبلِ الأخذ بالدين المتين من لدن كافة المسلمين، ولا سيما من أمتكم المغربية التي تتقلدون أمامها أمانة حماية الملة والدين.

ثم إن الموضوع له علاقةٌ بقضيةٍ تشغل المسلمين في هذا العصر خاصة، وتتعلق بسلطة المرجعية التي تظهر فيها بعض الفئات وكأنها تُريد أن تُقيم مصدراً للاستدلال والاستشهاد إلى جانب ما اتفق عليه المسلمون وهما الأصلان الأصيلان كتابُ الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

إن هذه القضية تتعلق بالاحتجاج القولي أو الفعلي، ولا تتعلق بالعمل السديد الذي قام به السلف في الاجتهاد في التفسير والتأويل والتصنيف والاستنتاج. بعد هذه الإشارة التمهيدية الضرورية نقول:

لقد ظلت الأمة قروناً طويلة، تحتكم في مرجعيتها الفكرية إلى أصولٍ علمية ثابتة، استقرأها من محكمات الوحيين أحدُ كبار المتخرجين من مدرسة الإمام مالك ألا وهو تلميذه النجيب الإمامُ محمدُ بن إدريس الشافعي، فكانت هذه الأصول بمثابة الدستور الشرعي الأول في فهم الكتاب والسنة، حيث بنيت هذه الأصولُ على الاستقراء التام لآيات الكتاب المحكم ونصوص السنة الشريفة، وقواعدِ اللغة العربية، ومناهجِ الاستدلال والنظر عند أئمة السلف الأعلام، ولم يخالف هذه الأصولَ الكبرى التي عليها المعول في فهم الكتاب والسنة أحدٌ من أهل السنة والجماعة، بل كانت هي نقطة الافتراق مع الفرق والطوائف الأخرى، والتي اتخذت أصولاً أخرى مباينةً لهذه الأصول، كان الدافعُ الأول في نشأتها هو انحرافها في أصولها العقائدية، والذي ألقى هذا الانحراف العقدي بظلاله على أصولهم المنهجية في الاستنباط والاستدلال.

هذه الأصول الشرعية التي عليها مدار الاتفاق، وإليها مسار الاحتكام عند الاختلاف والشقاق هي الأصول الأربعة المتفق عليها أصولياً: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

يقول الإمام الشافعي مجلياً هذه الحقيقة: ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.

فما الذي حصل بعد ذلك.. لقد نشأت في الأمة ناشئةٌ، ذهبت إلى فترة زمنية مباركة تُجلها الأمة وتحترمها ألا وهي فترة السلفِ الصالح، فأحاطتها بهالةٍ من القداسة حتى جعلت من فهوم أهل تلك الفترةِ الصالحةِ لزمانها، والمحكومةِ بحدود وإمكانياتِ مكانها، جعلت من تلك الفهومِ أغلالاً وآصاراً تقيد بهما فهمَ كتابِ الله وسنةِ رسول الله الصالحين لكل زمانٍ ومكان.

فهل كل فهمٍ واجتهادٍ نُسب إلى تلك الفترة الزمنية الفاضلة، يُعد حجةً في دين الله؟ بمعنى هل يكون العالمُ المجتهد الذي استكمل بناء أدواته الاجتهادية وعرف عصرَه ومصره وما يصلح لهما وما لا يصلح، هل يكون مُلزماً بذلك الفهم السلفي الذي أتى استجابةً لواقع مختلف وفق مُعطياتٍ مختلفة، أم يجب على هذا العالمِ أن يُعمِل هذه الأدوات الاجتهادية ليستنبط بها من الوحيين المعصومين أحكاماً صحيحة من خلال معرفته لواقعه واطلاعه على مستجداته، إذ الاجتهادُ – كما لا يخفى على شريف علمكم – ينبني على ثلاثة أركان: الركن الأول: معرفةُ النص الشرعي والركنُ الثاني: معرفةُ الواقع والركنُ الثالث: تنزيلُ هذا النص الشرعي على هذا الواقع.

فأين الركن الثاني والثالث عند من يقيد فهم النصوص بفهم السلف؟

أما النصُ الشرعي.. فلا زال القرآن الكريم غضاً طرياً كما نزل، حظُ أواخر هذه الأمة منه كحظ أوائلها والأمةُ كما يقول سيدُها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كالغيث لا يُعرف أوله خيرٌ أم آخره، والسنةُ النبوية الشريفة محفوظةٌ بنقل الثقات الأثبات من سلف الأمة العدول وعلى رأسهم ساداتنا الصحابة الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخاطبهم (نضَّرَ الله عبداً سَمِع مقالتي فوعاها، فبَلَّغها مَن لَم يَسْمعها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فِقْه لا فِقْهَ له) فلنتأمل يا مولاي قوله عليه السلام: (فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه سيأتي علماءٌ يكون اشتغالهم في فهم هذه النصوص أكثرَ تخصصاً وتفرغاً من اشتغال من كان قبلهم! وهكذا كان.. فالصحابةُ رضوان الله عليهم انشغلوا بأمور عظمى لا يُمكن لأحدٍ بعدهم أن يقوم بمثلها، كأمور الفتوحات ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا فيما يخص أكثرَهم، أما المشتغلون بالعلم وهم الأقل فأكثرُ شغلهم كان في حفظ السنة النبوية ونقلها، لذلك كان أكثرُ ما امتلأت به دواوين السنة هو ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أما ما فهموه واستنبطوه فهو موجود لكنه ليس بالكثرة ولا بالهيئة ولا بالتأصيل والضبط الذي حظيت به مذاهبُ الأئمة المجتهدين الذين جاؤوا من بعدهم خصوصاً المذاهبَ الفقهيةَ الأربعة، والتي ينتسب إليها وإلى فقه أئمتها جمهورُ المسلمين قديماً وحديثاً.

هذه المذاهبُ الأربعة المعتبرة هي في الحقيقة امتدادٌ طبيعي لما كان عليه سلف الأمة من حقٍ وصواب، فهل مذهبُ السادة الحنفية إلا امتدادٌ لفقه ابن مسعود في العراق، وهل مذهبُ إمام دار الهجرة الإمامِ مالكٍ إلا امتدادٌ لفقه أهل المدينة رضي الله عنهم، لكن هل وقفتْ هذه المذاهبُ الفقهية عند تلك المرحلة المباركة حتى أضحت أسيرةً لها؟، أم أنها استفادت منها ومن منهجيتها في النظر والاستدلال، ثم طورتها وجعلتها متوافقةً مع روح عصرها، بل ولم تقف عند حرفيتها بل تجاوزتها إلى النظر في أصولها الأولى ألا وهي الكتاب والسنة حتى قال الإمام مالك رضي الله عنه قولته الشهيرة: كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحبُ هذا القبر صلى الله عليه وسلم.

إن المتأمل لما يُسمى اليوم بـ(فهم السلف) والذي يُدعى الناس إلى الالتزام به بعد تجاوز تراثِ الأمة العظيم المتمثل بمدارسها العقدية والفقهية والسلوكية والتي فيها خلاصة ما كان عليه سلف الأمة من حقٍ وصواب، يجد أنه أمام شعارٍ اختلطتْ فيه الفكرة الدينية بالغاية السياسية، فبدل أن يكون الانتساب إلى السلف إطاراً جامعاً للأمة بمختلف مدارسها ومذاهبها، أضحى علامةً فارقة تشير إلى طائفةٍ تمثل جزءً صغيراً من الأمة تُريد أن تُؤطر جمهورَ الأمة وفق فهمها المحدود لما كان عليه أهل تلك الفترة الزمنية، حتى أضحى شعار (فهم السلف) اليوم سلاحاً للتبديع والتفسيق والتفريق يشهرهُ أصحابه في وجه مذاهب الأمة ومدارسها وطرائقها مما بناه الأئمة المجتهدون والأولياءُ الصالحون، وتوارثته الأمة كابراً عن كابر، بل ولم تسْلَم كثيرٌ من اجتهادات علماء الأمة المقبولة من سياط التحريم ومشانق التجريم، فالاجتماع لذكر الله وقراءة القرآن بطريقة جماعية جعلوه منكراً وبدعةً!، والاحتفال والاحتفاء بالمولد النبوي الشريف جعلوه أيضاً منكراً وبدعةً!، لماذا؟ لأن ذلك بزعمهم مخالفٌ لفهم السلف!، أو لأن سلف الأمة لم يفعلوا ذلك.

علماً أنه ثبت عن كثيرٍ من علماء أهل السنة والجماعة المتقدمين والمتأخرين أنهم يقولون بجواز مثل ذلك، كما في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي مثلاً، فهل كلهم مبتدعةٌ ضُلال! فعلى رأس القائلين بجوازه الإمامُ ابن حجر العسقلاني والإمامُ السيوطي والسخاوي وابنُ الجوزي الحنبلي وابن كثير وابن الجزري وابن عابدين..

ومنهم الإمامُ ابن عاشر المالكي. صاحب البيت الفخم الذي يُعبر فيه عن أهم الثوابت التي قامت عليها المملكة المغربية في ظل إمارتكم للمؤمنين أدام الله ظلالها الوارفة ألا وهو قوله:

في عقد الأشعري وفقه مالكِ *** وفي طريقة الجنيد السالكِ

هذه الثوابتُ العظمى.. العقيدةُ الأشعرية والفقهُ المالكي وطريقة الإمام الجنيد، التي حمت وتحمي مملكتكم المباركة من الأفكار المتطرفة، والآراء المنحرفة التي تشوه وجهَ الشريعة السمحاء، وتقف حجر عثرةٍ أمام اجتهادات السادة العلماء، هذه الاجتهاداتُ التي فيها السعة والتيسير على الناس، فلا إشهارَ لسلاح التشدد والتبديع والتكفير في وجوه عباد الله المؤمنين، وتالله ما ولد التطرف والإرهاب إلا من رحم التشدد!.

يقول الإمام سفيان الثوري رضي الله عنه (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، وأما التشدد فيُحسنه كل أحد) وإن من هؤلاء الذين يُحسنون لغة التشدد اليوم، طائفةٌ لها ذرائعُ عديدةٌ لتشددها من أهمها اتهام الناس بدعوى مخالفة فهم السلف!

فما حقيقة فهم السلف؟ وهل هو حجةٌ في دين الله؟ وما موقف جماهير علماء المسلمين منه؟ ثم ما هي أهم أدلة القائلين بحُجية فهم السلف؟ وما الجواب عنها؟ وأخيراً ما الأدلة على أن فهم السلف ليس حجةً شرعية؟

إن من نافلة القول.. أن نكرر التأكيد على المكانة السامية التي يحتلها سلف هذه الأمة رضي الله عنهم، والفضائلِ العظيمة التي حازوها كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وكما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..)

لكن هل هذه الأفضلية تقتضي الحجية؟ بمعنى: هل ورود النصوص الدالة على فضل ساداتنا سلف الأمة يدل على أن فهومهم واجتهاداتهم وإن تعددت وتنوعت حتى تصل إلى حدّ الاختلاف كما هو ثابتٌ عنهم، هل هذه الفهوم تكون حاكمةً مقيدةً لفهم الكتاب والسنة؟

ميدان بحث المسألة:

إن ميدانَ ومضمار بحثِ هذه المسألةِ العظيمةِ هو علمُ أصول الفقه الإسلامي الذي يختص ببحث أصول الاستدلال والنظر وما يصلح أن يكون منها حجةً في دين الله وما لا يصلح. هذا العلمُ الشريفُ الذي حماه الله وحباه بأئمة المسلمين الأكابر، فحولِ الشريعة وحراسِ حصونها المنيعة من جهابذةِ النُّظار، وعباقرةِ العلماء أهل الفخار، ولا زال ولله المنةُ والحمدُ لواؤهم في كل عصرٍ معقوداً موجوداً، ورايتهم في كل ساحة فكرية منشورةٌ منصورة، سخرهم الله وسخر لهم جنودَ العقل وحشودَ الفكر، وفي أمثالهم يصدق ما قاله يا أميرَ المؤمنين جدُكم مولانا الإمامُ عليُ كرّم الله وجهه حيث يقول: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطلَ حججُ الله وبيناتُه، أولئك هم الأقلون عدداً، الأعظمونَ عند الله قدراً، بهم يدفعُ الله عن حججه، حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم..)

وسيكون الكلام حول الاحتجاج بفهم السلف في أربعة محاور بإذن الله:

المحور الأول: حقيقة فهم السلف:

عرّف بعض القائلين بحجية فهم السلف، وهذا ما تدل عليه نصوصُ كبار علمائهم القائلين بالحجية أنه ما علمه وفقهه واستنبطه الصحابةُ والتابعون وأتباعهم من مجموع النصوص الشرعية أو آحادها مراداً لله تعالى ولرسوله مما يتعلق بمسائل الدين العلمية والعملية، مما أُثر عنهم من قول أو فعل أو تقرير. وأضيف (أو ترك). لأن أكثر استعمالهم لمصطلح فهم السلف إنما يأتون به في سياق ذكر تروك السلف أي ما لم يفعله السلف، كما تقدم معنا في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي وأنهم يستدلون بحِرمته، بعدم فعل السلف له، ومسألة التروك أي عدم الفعل اختلف فيها الأصوليون بخصوص تروك النبي صلى الله عليه وسلم هل هي حجةٌ أم ليست بحجة، بمعنى إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً هل يعتبر تركه دليلاً على حرمة هذا الفعل. فضلاً عن الاعتداد بترك الصحابة وسلف الأمة، وقد تكلم عن هذه المسألة العلامة المغربي عبد الله بن الصدّيق الغماري في رسالته (حُسن التفهم والدرك لمسألة الترك) حيث يقول: الترك وحده إن لم يصحبه نصٌ على أن المتروك محظورٌ لا يكون حجةً في ذلك، بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل مشروعٌ، وأما أن ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنما يستفاد من دليلٍ يدل عليه.

ولذلك تجد أكثر علماء الحديث والأصول إنما عرفوا السنة النبوية بأنها: كل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ولم يذكروا الترك من ضمنها.

إن المتأمل لكتابات كبار رموز القائلين بحجية فهم السلف اليوم ومنظريهم يجد أنهم يتعاملون مع (فهم السلف) أحياناً باعتباره أصلاً ثالثاً من أصول الاستدلال، والأكثر يعتبره الأصل الحاكم على الكتاب والسنة، فلا اعتبار لأي دليل ولا لأي اجتهاد عالم إلا بموافقته لهذا الأصل وكأنه لا توجد أدلة شرعية أخرى غيره.

وإليكم نموذجاً لأحد كبار علمائهم المشتغلين بعلم الحديث، فقد ذهب إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه صاحب مذهب، إذ يرى أن القول بحجية فهم السلف والانتسابَ إليهم من قبيل الانتسابِ للعصمة!

بل يصرح هذا الشيخُ بأن مرتبة الصحابة هي المرتبةُ الثالثة بعد قول الله وقول رسوله! صلى الله عليه وسلم بل يقول في نصٍ في غاية الخطورة له، بعد أن ذكر عبارة (الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) قال: (هذا حقٌ لا ريب فيه ولكنه ناقص!) هذا النقصُ عنده إنما هو في عدم إضافة الصحابة لهما! لأن دعوتهم كما يقول: (تقوم على ثلاثة أركان على الكتاب والسنة واتباع السلف الصالح)

إذاً فالكتاب والسنة ناقصان عند شيخ ومحدث هذه المدرسة التي تزعم تعظيم السلف ما لم يُضف إليهما الصحابة ومثل هذا الكلام الخطير لا يقوله ولا يرتضيه سادتنا الصحابة ولا أئمة السلف وعلماء الأمة الأكابر، حاشاهم وهم يحفظون ويفقهون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

فهل كَمل دين الله ببعثة خاتم الأنبياء عليه السلام، أم بمن جاء بعده!

ثم ماذا عند الصحابة وسلف الأمة رضوان الله عليهم من شيء زائدٍ لا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكونان وحاشاهما ناقصين ما لم يُضف إليهما الصحابة!

(سبحانك هذا بُهتانٌ عظيم)، كيف وقد كان سيدنا عبد الله بن عباس تُرجمان القرآن يُخاطب الصحابة قائلاً: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر(

المحور الثاني:بحث حجية فهم السلف من خلال مسألة حجية اتفاق الخلفاء الراشدين.

لقد اكتشفنا في كتابات القائلين بحجية فهم السلف أن مدار احتجاجهم على هذا الأصل لا يكاد يخرجُ عن الاستدلال بحديث العرباض بن سارية (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ..) وهو أحد أهم أدلة القول بحجية اتفاق الخلفاء الراشدين التي تناولها علماء أصول الفقه، فماذا كان موقفهم من هذا الحديث على فرْض صحته؟ وما هي آراءُ العلماءِ في هذه المسألة الأصولية؟

بمعنى: هل إذا اتفق فهم كبار أئمة السلف وعلى رأسهم سادتنا الخلفاء الراشدون على

مسألة من المسائل وقالوا فيها بقول واحد، هل هذا الفهم حجةٌ في دين الله لا يسع المجتهدين مخالفته، أم أنه يجوز لهم مخالفته؟

إن من أهم الحقائق التي وقفنا عليها في هذه المسألة هي أن القول بعدم حجية اتفاق الخلفاء الراشدين والتي هي من أعلى صور فهم السلف هو قولُ جماهير العلماء ومذهبُ أكثر علماء المذاهب الأربعة.

وقد تنوعت عبارات الأصوليين الذين نسبوا هذا الرأي لجماهير أهل العلم:

فمنهم من ذكر أنه مذهب الجمهور كالإمام الزركشي، ومنهم من نص على أنه رأي الأكثرين كالآمدي. ومنهم من جعله مذهب الجماعة كالرجراجي المالكي. ومنهم من حكاه عن الأئمة كالمرداوي الحنبلي.

فمن القائلين بعدم حجية اتفاق الخلفاء الراشدين من الحنفية شيخُ الحنفية ببغداد أبو سعيد البردعي والكمالُ بن الهمام و البابرتيُ.

أما السادة المالكية: فقد نص على القول بعدم حجية اتفاق الخلفاء الراشدين ابنُ الحاجب، كما اختار هذا القولَ الإمامُ القرافي فإنه حين ذكر حديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) تأوّل هذا الحديث ورأى (أنه محمول على اتباعهم للسنن والكتاب العزيز، وقال: ونحن نفعل ذلك. أي نتّبع الكتاب والسنة

إذاً فالمقصود باتباع سننِ الخلفاء الراشدين في هذا الحديث اتباعهم فيما اتبعوا فيه الكتابَ والسنة، فالحجة في اتباع الكتاب والسنة لا في اتباع فهومهم رضي الله عنهم.

أما الشافعية: فلا تكاد تختلف كلمتهم على القول بعدم حجية اتفاق الخلفاء الراشدين فهذا حجة الإسلام الغـزالي حينما ذكر قولَ من قال (أن الحجة في اتفاق الخلفاء الأربعة) علق على ذلك قائلاً: “وهو تحكم لا دليل عليه”.

وفي موضع آخر بعد أن عدّد أقاويل العلماء في حجية قول الصحابي وقول الخلفاء الراشدين قال بعد ذلك: (والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟ وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة.) انتهى كلامه

أما مذهب أصحابنا الحنابلة: فقد ذهب كثير منهم إلى القول بعدم حجية اتفاق الخلفاء الراشدين، يقول علاءُ الدين المرداوي: (قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة مَعَ مُخَالفَة مُجْتَهد، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ عِنْد الْأَئِمَّة؛ لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة الَّذين جُعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم)

المحور الثالث:بحث حجية فهم السلف من خلال مسألة حجية قول الصحابي

وهي من المسائل المرتبطة ارتباطاً وثيقا بمسألة حجية فهم السلف حيث عمد القائلون بحجية فهم السلف إلى أدلة هذه المسألة فاستدلوا بها على قولهم بحجية فهم السلف.

وهنا نقول: إن مذهب جمهور الأصوليين هو القول بعدم حجية قول الصحابي أي أن فهمَ الصحابي ومذهبَه إذا ورد في مسألة معينة لا يجب على المجتهد الأخذ به.. يقول الشيخ الأصولي الخضري: (ليس مذهبُ الصحابي حجةً على صحابي مثله بلا نزاع، أما بالنسبة لغيره فقال الجمهورُ: ليس بحجةٍ مطلقاً.. لأنه لا دليل على كونه حجةً فوجب تركه).

وهنا نصٌ مُحكمٌ لأحد أصحابنا الحنابلة وهو العلامةُ الأصولي ابنُ بدران الحنبلي عن مذهب الصحابي، وبمثل قوله نُجيب على القائلين بحجية فهم السلف، قال رحمه الله: (وَالَّذِي يظْهر أَنه الْحقُ أنه لَيْسَ بِحجَّةٍ (أي مذهبُ الصحابي وفهمه) فَإِنّ الله لم يبْعَث إِلَى هَذِه الْأمة إِلَّا نبيَها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لنا إِلَّا رَسُولٌ وَاحِدٌ وَكتابٌ وَاحِدٌ وَجَمِيُع الْأمة مأمورةٌ بِاتِّبَاع كِتَابه وَسنة نبيه وَلَا فرق بَين الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي ذَلِك فَمن قَالَ إِنَّهَا تقوم الْحجَّةُ فِي دين الله بِغَيْر كتاب الله وَسنة نبيه وَمَا يرجع إِلَيْهِمَا فقد قَالَ بِمَا لَا يثبت وَأثبت فِي هَذِه الشَّرِيعَة الإسلامية مَا لم يَأْمر الله بِهِ وَهَذَا أَمرٌ عَظِيم وَتقوّل بَالغ فَإِن الحكمَ لفردٍ أَو أَفْرَادٍ من عباد الله بِأَن قَوْله أَو أَقْوَالهم حجَّةٌ على الْمُسلمين يجب عَلَيْهِم الْعَمَل بها وتصيرُ شرعاً ثابتاً متقرراً تعمُّ به البلوى، مما لا يدانُ الله عز وجل به وَلَا يحل لمُسلمٍ الركون إِلَيْهِ فَإِن هَذَا الْمقَام لم يكن إِلَّا لرسل الله لَا لغَيرهم وَلَو بلغ فِي الْعلم وَالدّين وَعِظم الْمنزلَة أَي مبلغٍ وَلَا شكّ أَن مَقَام الصُّحْبَة مقَام عَظِيم وَلَكِن ذَلِك فِي الْفَضِيلَة وارتفاع الدرجَة وعظمة الشَّأْن وَهَذَا مُسلّم لَا شكّ فِيهِ وَلَا تلازم بَين هَذَا وَبَين جعل كل وَاحِد مِنْهُم بِمَنْزِلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حُجية قَوْله وإلزام النَّاس باتباعه فَإِن ذَلِك مِمَّا لم يَأْذَن الله بِهِ وَلَا ثَبت عَنهُ فِيهِ حرفٍ وَاحِد) انتهى كلامه.

المحورُ الرابعُ والأخير: الأدلة على أن فهم السلف ليس حجةً شرعية:

الدليل الأول: وهو منطلق هذا الدرس الحسني المبارك أمام حضرة مولاي أمير المؤمنين ألا وهو قول الله تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً﴾ ووجه الاستدلال: حيث أمرنا الله بالرجوع إلى الكتاب والسنة ولم يذكر الرجوعَ إلى فهم السلف ولو كان فهم السلف حجةً لأمر بالرجوع إليه.

قال الإمام السمعاني: في هذه الآية: فالمراد به رد الحكم إلى الكتاب والسنة وهو رد إلى الله وإلى رسوله.

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ . وجه الاستدلال: أن الله أوجب الاعتبارَ وهو الاجتهادُ والقياس كما فسرها بذلك جمهورُ العلماء القائلين بحجية القياس، قال الإمام السرخسي: الاعتبارُ هو العمل بالقياس والرأي فيما لا نص فيه.

ولم يأمرنا سبحانه بالأخذ بفهم السلف سواء كان مذهباً للصحابي أو من دونه من التابعين أو أتباعهم.

الدليل الثالث: حَدِيث سيدنا معَاذ حِين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقَالَ لَهُ: (بِمَ تقضي؟ قَالَ: بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله؟ قَالَ: بِسنة رَسُول الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله؟ قَالَ: اجْتهد رَأْيِي. فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضى بِهِ رَسُوله). ففي هذا الحديث الدليل على وجوب العمل بالكتاب والسنة والقياس ولم يذكر فيه فهم السلف ولا قول الصحابي. قال الإمام السرخسي: فَهَذَا دَلِيل على أَنه لَيْسَ بعد الْكتاب وَالسّنة شَيْء يعْمل بِهِ سوى الرَّأْي.

الدليل الرابع: الإجماع.. فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تجويز مخالفة بعضهم لبعض ولو كان فهم السلف حجةً لما كان كذلك وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال.

الدليل الخامس: انتفاء الدليل على العصمة، قال الإمام الإسنوي: الصَّحَابِيّ لم تثبت عصمته والسهو والغلط جائزان عَلَيْهِ فَكيف يكون قَوْله حجَّة فِي دين الله تَعَالَى.

الدليل السادس: سلف الأمة من الصحابة ومن دونهم، وكل عالمٍ من العلماء يشتركان في آلة الاجتهاد، فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. وقد نقل الإمام ابن الحاجب المالكي الاتفاقَ على أنه (لا يجوز للمجتهد بعد اجتهاده تقليدُ غيره.)

الدليل السابع: أن سادتنا سلف هذه الأمة رضي الله عنهم لم يدعوا الناس إلى وجوب الأخذ بفهمهم: فهذا سيدنا عمر بن الخطاب كان وقّافاً عند كتاب الله، وكان يشاور الصحابة؛ فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول: فترد عليه امرأةٌ من المسلمين قوله وتبينُ له الحقَ فيرجعَ إليها ويدعَ قوله، كما في قصة (تحديد صداق النساء)

فعن الإمام الشعبي قال: (خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناسَ فحمدَ الله تعالى وأثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سيق إليه إلا جعلت فضلَ ذلك في بيت المال. ثم نزل فعرضت له امرأةٌ من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين أكتابُ الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك قال: بل كتابُ الله تعالى فما ذاك؟ فقالت: نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النساء والله تعالى يقول في كتابه ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً﴾ فقال عمر رضي الله عنه: كل أحدٍ أفقه من عمر مرتين أو ثلاثاً، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء ألا فليفعل رجل فى ماله ما بدا له).

وفي قول سيدنا عمر رضي الله عنه حينما سألته المرأة (أكتاب الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك) فقال: (بل كتاب الله تعالى.) في هذا دليلٌ على اختيارنا بعدم حجية فهم السلف إذ لو كان حجةً لقال سيدنا عمر اتباع الكتاب حق، واتباع فهمنا لكتاب الله حق وحجة، وهذا ما لم يقله لا سيدنا عمر ولا سادتنا الصحابة وسلف الأمة، وما ذلك إلا لإقرارهم أن أقوالهم واجتهاداتهم ليست حجةً في دين الله!

الدليل الثامن: (دليل التناقض) وهو أنه لو كان حجةً للزم من ذلك تناقض الحجج، فالاختلاف بين الصحابة مشهور معلوم.

قال الإمامُ ابن حزم الأندلسي: (فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائلٍ من الصحابة رضي الله عنهم وفيهم من يحلل الشيء وغيره منهم يحرمه). وقد سرد ابن حزم بالأسانيد الصحيحة نحواً من خمسٍ وثلاثين مسألةً وفتوى اختلفت فيها أقوال سادتنا الصحابة رضي الله عنهم، فأي هذه الفهوم المتخالفة حجةٌ في دين الله؟

إن ساداتنا سلف هذه الأمة رضي الله عنهم لم يُعطوا أنفسهم هذه الهالة، ولم يُلبسوا فهمهم للشريعة بهذه القداسة، بل كانوا يُقرون أنهم إنما يقولون بآرائهم واجتهاداتهم، ولا ينسبون هذه الآراء والاجتهادات إلى الله ورسوله بل يتبرأون من ذلك.

فهذا سيدنا ابن مسعود كان يقول في بعض فتاواه (أقول فيها برأيي فإن كان حقاً فمن الله وإن كان باطلاً فمني والله ورسوله بريئان.)

وفي الختام:

بعد هذه الإجابات والأدلةِ التي تقودنا إلى اختيار الرأي الصحيح في مسألة الاحتجاج بفهم السلف، فقد ظهر لنا أن الاتجاه الراجح هو أن فهم السلف رضي الله عنهم ليس حجةً في دين الله، وهو ما عليه جمهور علماء الأصول. وما دام ذلك كذلك فلا يحق لأحدٍ أن يُميز نفسه عن جمهور الأمة وعلمائها بمنهجيةٍ أو شعارٍ أو أفكارٍ أو لباسٍ تحت ذرائعَ وبدعاوى لا تقوم على دليل.

ولا يجوز لأحدٍ كائناً من كان.. أن يخرج على سواد الأمة الأعظم فيُخطئَ مجتهديها، ويُبدّع صالحيها، مستدلاً عليهم بما لا يصلح للاستدلال، ولا تُسنده الحجةُ والبرهان. والله الهادي إلى سواء الصراط.

نسأل الله العلي العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ونسأله جلت قدرته أن يَحفظ يا أميرَ المؤمنين دولتكم العلوية العلية في عزٍ ومجدٍ وتمكين..

(ووجهكَ: وضّاحٌ وثغركَ: باسمٌ) *** وروضــكَ: معطارٌ وكفــــكَ: مدرارُ

يلومونني فـــي حــب آل محمدٍ *** ونحــــن لهم من أول الدهر أنصارُ

والختم عند مولاي أمير المؤمنين

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

باستمراركم في تصفح هذا الموقع، نعتبر أنكم موافقون على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" أو التقنيات الأخرى المماثلة لها والتي تتيح قياس نسب المتابعة وتقترح عليكم خاصيات تشغيل ذات صلة بمواقع التواصل الاجتماعي أو محتويات أخرى أو إعلانات قائمة على خياراتكم الشخصية

موافق

This will close in 0 seconds