الاستاذ ذكر الرحمان : التربية على المسؤولية

14 أبريل 2023
الاستاذ ذكر الرحمان : التربية على المسؤولية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده،

والصلاة والسلام علىرسولِ الله وعلى آله وصحبه الأكرمين

مولايَ أميرَ المؤمنين جلالةَ المَلِك محمد السادس.

أَمَدَّ اللهُ في عُمَرِكم وَوَفَّقَكُم لكلِّ خيرٍ،

أُحَيِّي جنابَكمُ الكريمَ بالتَّحِيَّةِ اللائِقَةِ بِالمُلُوكِ الأَشْرَافِ، أمراءِ المؤمنين، وأُهَنِّئُ جلالَتَكُم علي هذه السُنَّةِ الحميدةِ سنةِ الدروس الحسنية التي شاع ذكرُها الحسنُ عند المسلمين شرقاً وغرباً، فهو مجلسٌ مباركٌ لتكريم العلم وأهله، وإشاعة المعارفِ بغايةِ تقريب المؤمِنِ من ربه، وهدايةِ الأمةِ إلى سبل الرشاد، لاسيما في هذا الشهْرِ المبارَكِ الذي أُنزِلَ فيه القرآنُ، فَعَمَلُكُم العِلْمِيُّ هذا مائدةٌ ربانِيَّةٌ في شَهْرِ الغُفْرانِ، “ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَي القُلُوب”.

وحيث إن هذه الدروس الحسنية تترجم إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسيةـ فحبذا لو صارت تترجم إلى اللغة الأوردية التي يتكلمها ربع مليار مسلم في شبه القارة الهندية.

صاحب الجلالة

إنَّهُ لَشَرَفٌ كبيرٌ لي أَنْ أُشارِكَ في مجلِسِكم المبارَكِ وأَتَحَدَّثُ عَنْ مَوضُوعِ  “التربية على المسؤولية ” تأسيساً على ما جاء في كتابِ الله من وَصِيَّةِ لقمان.

إنَّ المسلمين في الهند يعيشون في ما يُشْبِهُ مختبراً عظيماَ تعمل فيه موادُ الأديانِ المختلفةِ في تشكيل الشخصية الإنسانية، فهنالك أديانٌ أسيويةٌ روحانيةٌ عريقةٌ يتعايش معها المسلمون، وبكيفية موضوعيةٍ يقوم الناس بالمقارنةِ بين الفضائل التي تَضْمَنُ العيشَ المشتركَ، وللإسلامِ والحمدُ لله رصيدُهُ المثاليُّ في مبادئ التلاؤُمِ والتوافقِ، بل ومحبة الخيرِ والعمل على جلبِهِ للجميع، ومن أهمِّ النتائجِ والثمراتِ التي ينبغي أنْ تَتباهَى بها الأديانُ التربيةُ على المسئوليةِ، فهي مِرْآةُ الروحانيةِ الحقةِ، إذ يَظهَرُ في الظاهرِ النورُ الذي في الباطن.   

وَاسْمَحُوا لي يا أمير المؤمنين في البداية أَنْ أَضَعَ كلامي عن التربية في الإسلامِ في إِطارِ الإشاراتِ الثلاثِ الآتِيةِ:

أولا: أَنَّ القرآنَ الكريمَ كُلَّهُ بِأَحْكامِهِ وأَخْلاقِهِ وعِبَرِهِ وقَصَصِهِ توجيهاتٌ تَرْبَوِيَّةٌ مَلِيئَةٌ بِالشَّفَقَةِ على الإنسانِ الذي كرمه الله وأراد له أن يَبقَى في أحسنِ تقويمٍ، وأنهُ لايجوزُ لنا في هذا العصرِ نحن المسلمين تحت تأثيرِ عديدٍ من المُسْتَجَدَّاتِ في نَمَطِ الحياةِ أن يَتَسَرَّبَ إلينا الشكُّ في فَعَّالِيَّةِ هذا الأسلوبِ وفي مضمونِهِفَنتَهاون في الأُخذ ِ به، فالقرآنُ الكريمُ سَيَبْقَى يَقُصُّ علينامَوْعِظَةَ لقمانَ الحكيمِ لابنِهِأَنْ وَصَّاهُ بالشكرِ للهِ وبعدم الشِرْكِ به وباستحضارِ مراقَبَةِ الله لهفي كُلِّ شيءٍ وَوَصَّاهُ بالصلاةوالأمرِ بالمعروفِوالنهيِ عن المُنْكَرِوَوَصَّاهُ بالصَّبرِوبِتَجَنُّبِ الذُّلِّ واحتقار الناس وتَجَنُّبِ الكِبْرِ والاخْتِيالِ وبالقصْدِ في المَشْيِ المادِيِّ والمَعنويِ وتجنب الصَخَبِ. إنها مبادئُ تربويةٌ كاملةٌ تَعُمُّ العلاقةَ بالله والعلاقةَ بالذاتِ والعلاقةَ بالناس؛

ثانيا: إن الدِّياناتِ والمذاهبَ الفلسفِيَّةَ في العالم اقترحَتْ وما تزال تَقْتَرِحُ على الإنسانِ منظوماتٍ تربويةً للسلوكِ يُرَكِّزُ بعضُها على النفعيةِ الماديةِ أو الاجتماعيةِوبعضها على إجراء السِلْم الروحيِ مع الذات في مُواجَهَةِ الضُعْفِ واللذات، ونحنمسلمِيِ الهندنُعايِشُ أطيافاً من هذهِ التَوَجُّهاتِ ونعمَلُ على إقناعِ الأجيالِ بوسطِيَّةِ الإسلام؛

ثالثا: تَتَأَكَّدُ في كل يومٍ في هذا العصرِ ضرورةُ اجتهادِ المربين للإقناعِ بأن الحُرِيَّةَ التي اجتهدَ من أجلِها الإنسانُ في تاريخه المشتركِ وأدى ثمنَها غالياًلا يجوز أن يُساءَ فهمُها واستعمالُها بحيث تُضْعِفُ الأخلاقَ؛

رابعا: لقد ظَهَرَتْ في العالم الغربِيِ المعاصِرُ وانْتشرتْ في بَقِيَّةِ العالَمِ أدبِياتٌ تَنْصَحُ بقواعدَ للسِلْمِ مع الذاتِ أو لتخفيفِ الكَآبَةِ وإعادَةِ البِشْرِ للوجوهِ وشعارُ أغلبِها طلبُ أسلوبِ النجاحِ الماديِّ في الحياة ـ فلَزِمَ المسلمَ أن يَعْرِفَ ما يُقابِلَ تلك الأدبيات في أخلاقِ الدِّينِ مع تَمَيُّزِ هذه الأخلاقِ بالمَرْجَعِيَّةِ في الإيمان بالتوحيد.

مولايَ أميرَ المؤمنين      

إن التربيةَ على المسئوليةِ تربيةٌ على الحريةِ، وهذه قَضيةٌ سَتُواكِبُ مسيرةَ الإنسان إلى يوم الدين، فلا عبادةَ لله الواحدِ بلا حريةٍ، ولا حريةَ بلا مسئوليةٍ، ومن المناسِبِ والمُجْدي أن يُتَعَلَّمَ الأولاد هذه الحقيقةُ في سَنِّ الطُفُولَةِ، ولا سيما في زمنٍ يَتَهَدَّدُه التَفَسُّخُ والتمرُّدُ في العلاقاتِ السوية بين الآباء والأبناء. 

قال الله تعالى في السورة التي تَحمِلُ نفسَ الاسم: بسم الرحمن الرحيم “ولقَدْ آتَيْـنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ  فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ۞وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِـظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ۞وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَـتْهُ أُمُّـهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ۞وَإِن جَاهَـدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِـعُكـُمْ فَأُنَبِّـئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ۞يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ۞يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ۞وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ۞وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُـضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{.

إِنَّ هذه الوصية مُتَضمِّنَةٌ  حالَ صاحبها العجيب في الاهتداءِ والحكمةِ. ومن أجمل ما ورد في تفسيرها ما نقرؤه عند صاحب التحرير والتنوير. ولقمانُ رجلٌ صالحُ، وفي بعضِ الروايات أَنَّهُ من بلادِ النُوبةِ، وفي أخرى أنه كان في عهدِ داوودَ وفي بلده، والجمهورُ على أنه كان صالحاً ولم يكن نبياً، كان كثيرَ التفكر حسنَ اليقينِ أَحَبَّ اللهَ فأَحبَّهُ اللهُ، وقد أُلهِمَ الحِكمَةَ ونطقَ بها، فكلامُهُ تعليمٌ لا تبليغٌ. وإن كانت الحكمةُ قد أُطلِقَتْ على النبوءةِ في كثير من القرآن. والحكمةُ معرفةُ حقائقِ الأشياءِ على ما هي عليه. قيل كان قاضياً أو خياطاً أو نجاراً أو راعياً لبعض العرب. كان معروفاً عند خاصة العرب قبل الإسلام، لأن قريشاً سألَتْ عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما دعا الرسولُ بعضَهم للإسلام قال له لعل هذا الذي عِنْدَك عندي مما أحفظه من مجلة لقمان.

وٍمن كلام المفسرين فيها قولهم: آتينا بمعنى أعطَينا، والحكمة هنا أقوالٌ أُوْحِيتْ إليه أو أُلْهِمَها، ومثل هذا الإلهامِ جرَّبَّهُ الصوفيةُ ولم يُنْكِرْه العديدُ من العلماء.

أولُ ما لُقِّنَهُ لقمانُ من الحكمة هو الحكمةُ في نفسه بأن أمرَهُ اللهُ بشكره على ما هو محفوفٌ به من نِعَمِ الله، ومنها الاصْطفاءُ بإعطائهِ الحكمةَ، وعلى رأسِها النظرُ في دَلائِل نفسِهِ وحقيقتِهِ قبلَ التصَدِّي لإرشاد غيرِهِ.

والحكمة تدعو إلى معرفةِ حقائق الأشياء على ما هي عليه قصدُ العملِ بمقتضى العلم، فالحكيمُ يبُـثُّ في الناس تلك الحقائقَ على حسب قابليتهم بطريقةِ التشريعِ تارةً والموعظةِ أخرى.

والشُكرُ يظهر في صَرْفِ العبدِ جميعَ ما أُنْعِمَ عليه به من مواهبٍ ونِعَمٍ فيما خُلِقَ لأجلِهِ، فكان شكرُ اللهِ هو الأهمُ في الأعمال المستقيمَةِ، فهو مَبدَأُ الكمالاتِ علماً وغايتُها عملاً.

أَعقبَ اللهُ الشكرَ المأمورَ به ببيانِ أنَّ فائدتَه لنفس الشاكر ولا تنفعُ المشكورَ.

انتقلَ من وصفِهِ بحكمةِ الاهتداءِ إلى وَصْفِهِ بحكمة الهُدي والإرشادِ.

إنَّ ابنَ لقمانَ كان مُشرِكاً، ولم يزَلْ أبوه يعِظُهُ حتى آمَنَ بالله وحده.

وقد جمعَ لقمانُ في هذه الموعظةِ أصولَ الشريعةِ وهي: الاعتقاداتُ والأعمالُ وأدبُ المعاملة وأدبُ النفسِ.

فالنداءُ في قوله “يا بني” مستعمَلٌ مجازاً في طلب حضورِ الذهنِ لوَعْيِ الكلام. والتصغيرُ كنايةٌ عن الشفقَةِ وحثٌ على الامتثالِ. بدَأَ بطلب الإقلاعِ عن الشركِ لأنَّ إصلاحَ الاعتقادِ أصلُ إصلاحِ العملِ، فظُلمُ الشركِ ظلمٌ لحقوقِ الله وظلمٌ للنفس.

إن المفسرينَ الذين دَرَجُوا على أنَّ لقمانَ لم يكن نبياً يرون أن الكلامَ عن الوالدين اعتراضٌ في سياق الوصيةِ وليس منها لأن صيغتَهُ على أسلوبِ الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله تعالى.

ذكرَ الله أدقَّ الأجسامَ المُختفِي في أصلبِ مكانٍ أو أبعدِهِ أو أوسعِه أو أشدِ منه انتشاراً ليعلمَ أن ما هو أقوى منه في الظهورِ والدُنُوِّ من التناول أولى بأن يُحيطَ به علمُ الله.

المثقالُ ما يقدُرُ به الوزنُ، والحبةُ بذرُ النباتِ. والخَرْدلُ نباتٌ معروفٌ يُخرِجُ بذوراً دقيقةً تسمَّى الخردلُ لبُها يلْدَغُ اللسانَ. وهذا معنى: ما يَعْزُبُ عن رَبِّكَ من مثقالِ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ.

اللطيفُ من يَعلمُ دقائقَ الأشياءِ ويوَصِّلُها في رفقٍ إيماءٌ إلى التمكن.

وهنا استوفت الوصية أصولَ الاعتقاد.

وانتقلت إلى تَعْلِيَم أصولِ الأعمالِ الصالحةِ، وهي عمادُ الأعمال لاشتمالِها على الاعتراف بطاعة ِالله وطلبِ الاهتداءِ للعملِ الصالحِ.

ثم جمعَ لابنهِ الإرشادَ إلى فعلهِ الخيرَ وبثِّهِ في الناس، وكفِّهِ عن الشر وزَجْرِهِ الناسَ عن ارتكابِهِ. ثم أَعْقبَ ذلك بأمره بالصبر على ما يُصِيبُهُ، لأن الأمرَ بالخير والنهي عن الشر قد يَجُرَّان للقائم بهما معاداةً أو أذىً من بعض الناس. وفائدةُ الصبرِ عائدةٌ على الصابرِ بالأجر.

ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للناس: أي لا تلتفتُ على سبيلِ الإهانةِ لأن ذلك ليس هو المقصودُ من الأمر بالصبر.

ثم أوصاه العزْمَ : حتى لا يُتردَّدَ في الحقِ.

ثم انتقلَ لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة ِالناس فَنَهاهُ عن احتقارِهم، وهذا يقتضي أمرَهُ بإظهارِ مساواتِهِ مع الناس وعَدَّ نفسِهِ كواحد منهم.

ثم حذرُهُ من المشيِ في الأرض مرحاً: وهو كِنايةٌ عن النهيِ عن التكبرِ والتفاخرِ.

بعد أنْ بيَّنَ له آدابَ حسنِ المعاملةِ مع الناسِ قَفّاها بحسنِ الآدابِ في حالته الخاصة، وتلك حالتاَ المَشْيِ والتكلُمِ، وهما أظهرُ ما يلُوْحُ على المرءِ من آدابه. والقصدُ الوسطُ بين طرفين.

إن هذه الوصيةَ تربيةٌ مُجمَلةٌ لكِنَّها في مواضيعِها مكتمِلَةٌ، والذي يُرَبِّي لا يَفعلُ شيئاً غيرَ تحميلِ المسئوليةِ للمتربي، لأنه يخاطِبُهُ بمَنطِقٍ يشرَحُ فوائدَ الإتباع وعواقِبَ المخالفَةِ. فالتربيةُ على المسئولية في الصغرِ تأهيلٌ لِتحمَّلُها في الكبر في أمور الدين والدنيا.

إن الإشاراتِ إلى المسئولية في القرآن تَتَعَلقُ في مُعظَمِها بالمحاسبةِ في الآخرةِ، ويَنْسُبُ إلى الخليفة عمر بن الخطاب قولَه: “حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا…” وكيف ما كانت درجةُ صِحةِ هذا الأثرِ فقدِ اهْتمَّ علماءُ المسلمين بمختلف مساربِهم ومدارسِهم اهتماماً كبيرا بالتربية على مُحاسبةِ النفس، ومن أشهَرِ الكتب في هذا الأسلوب التربوي كتابٌ “محاسبةُ النفس” لابن أبي الدنيا، المُتوَفَّى ببغداد عام 281 هـ.   

فالمسئوليةُ في الإسلام مرتبطةٌ بالتكليف، وهو مَبحثٌ نالَ عنايةً خاصةً في التنظيرِ والتقريرِ من الفقهاء، فالمكلفُ العاقلُ يَتَحملُ نتيجةَ قراراتِه والتزاماتِه واختياراتِه أمامَ الله وأمامَ الجماعة وأمامَ ضميره اليقَظِ. 

فالمحاوِرُ الأربعةُ في وصيةِ لقمانَ تذكير بوجوهِ السلوكِ التربويِّ، ومجردُ استحضارِها في عين المربي ثم في عين المتربي ذو أهميةٍ منهجيةٍ لِما تُعِينُ عِلِّين من المرجعياتِ في المبادِئ المفصلَةِ، ويمكِنُ أن نُشيرَ إلى مضامينِها بإيجازٍ: 

أولاً :التربيةُ في باب العقيدة؛

أ‌)    يجب أن تُستحضرُ فيه التربيةُ على مسئوليةِ الاختيار الأكبرِ الذي هو الإيمانُ، فالمسلمُ يولَدُ في بِيئةٍ مسلمةٍ، فتلك هي النعمةِ الكبرى ولكن لا بد أن يحصل له وعي وكـنه يختار ويجدد الانتماء إلى الإسلام؛

ب‌)  تستحضر في التربية على مسئوليةِ أمانةٌ تكريمِ الله للإنسان، فهذه عقيدةُ المسلم، ولها تبعاتُها في الحرص على السموِّ إلى ذاك المقامِ؛

ج‌)يجب أن تُستحضر في التربية على المسئولية قيمة الحريةِ التي يُكفِلُها التوحيدُ، فالتوحيدُ ليس مجردُ الاستحضارِ العقليِ لِما يذكرُهُ المتكلمون من أمورٍ تتعلق بذاتِ الله تعالى وصفاتِه، بل التوحيدُ قوةٌ روحيةٌ تَعمرُ الباطنَ وتُحَقِّقُ للمؤمن حضورَ الله معه وقوته بذلك الحضورِ فَيَتَقوَّى. فالإنسانُ يكون حراً إزاءَ العالمِ بقدر تَمَثُّلِه لحقيقة التوحيد، على أن هذه الحريةَ تتميزُ بكونها حريةً مسئولةً وملتزمةً؛

أ‌)    يجب أن يُستحضر في التربية على مسئوليةٍ في الحِرصِ على ما هو مقررٌ من أخْذ ِالدين عن العلماء العدولِ، وما يَتَرَتَّبُ عن ذلك من لزومِ الجماعةِ والتحصُّنِ من الأهواءِ التي طاردت المسلمين في تاريخهم.

بعد هذه الإشارات المرتبطةِ بما جاء في الوصية في باب العقيدة، نأتي إلى توجيهاتِها في باب العمل:

أ‌)    يجب أن تُستحضر فيه التربيةُ على المسئولية على البِرِّ بذوي القربى، لأن عملُ الخيرِ منظورٌ إليه من جهةِ التربيةِ ينبغي أن يُراعِي الأولوياتِ والمقاماتِ والدرجاتِ، وأقربُ دائرةٍ يحقِّقُ فيها الفردُ عملاً صالحاً هي دائرةُ قرابتِهِ الصغرى، فمن لم يعمَلْ الخيرَ في الدائرة، ابتداءً من الوالدينِ، لم ينتظرْ منه أن يَبذُلَه فيما هو أوسع منها؛   

ب‌)       يجب أن تُستحضر فيه التربية على المسئولية عن الإحسانِ إلى الجماعة، وعياً بما ورد في السنة من أمر المؤمنين في توادِّهِم وتراحُمِهم كالجسدِ الواحد، والجماعةُ هي القريةُ ثم القبيلةُ أو المدينةُ ثم الشعبُ والوطنُ، ثم سائرُ المسلمين ثم مَن خلقهم من الناس أجمعين؛

ج) يجب أن تُستحضر فيه التربية على المسئولية عن العمل وإدراكِ فضيلته نُبذاً لِمكامِنِ الضُعفِ في التكاسلِ والتواكلِ، وتحقيقًا للغاياتِ الحميدةِ للسعي وما يترتب عنها من الخير للذات وللآخرين؛

د) يجب أن يُستحضر في التربيةُ على المسئوليةِ الحرص على الزيادةِ في الخير، فلا يقنَعُ الملتزِمُ بهذه التربيةِ بالنَزَرِ القليلِ شعوراً منه بأن إسهامَه في عمارةِ الأرض لجميعِ من فيها.

أما في بابِ المعاملات، فأهمُّ ما ينبغي استحضارُهُ في التربية على المسئولية أربعةُ أمورٍ: نَبْذُ الأنانيةِ وأداءُ الحقوق، وخَفْضُ الجناحِ للخلق في غير مَذَلَّةٍ،  والحرصُ على التعاونِ على البِّرِ والتقوى.

أما في باب الصفاتِ الذاتية فالتربيةُ على المسئولية ينبغي أن تُراعِي حقوقَ النفس وحقوقَ الجسد والتربيةَ على العرفانِ وردَ الجميل، ومن المواضيع التي ورد فيها في القرآن الكريم ذكرُ التربيةِ على المسئوليةِ عن تصرفاتِ الإنسانِ بجوارحِهِ سورةُ الإسراءِ في قوله تعالى: ]ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إن السَمْعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسئولا{.” ومعنى الآيةِ من مشاغلِ الناسِ في العالَمِ في هذا الوقتِ حيث كثر الحديث عن الأخبار المزيفةfake news، فمعنى لا تقفُ، لا تقُلْ رَأَيْتُ وأنت لَمَ تَر، ولا سمعتُ وأنت لم تَسْمَع، ولا علِمتُ وأنت لم تعلَمْ، ويدخُلُ في ذلك كلُّ أنواعِ الزُورِ، فقد رأى المفسرون في هذه الآيةِ إصلاحاً عقلياً يعلمُ الأمّةَ التَفرَقةَ بين مراتبِ الخواطرِ العقليةِ بحيثُ لا يَخْتَلِطُ عندهم المعلومُ والمظنونُ والموهومُ.

مولايَ أميرَ المؤمنين

هذه بعضُ القطوفِ الدانيةِ من وصيةِ لقمان، ولابد من شرحِها بأسلوبِها الذي يَتَطَلبُ عند المُرَبِّين من الآباءِ إلى المعلمين شيئاً مما أُوتِيهِ لقمانُ من الحكمةِ، وهذا ما يُفهم من استهلالِ الوصيةِ بذكرٍ ما أكرَمَ اللهُ به هذا المربِيَ من الحكمة، ومن أساليب الحكمة اليومَ استعمالُ معارفِ المحيطِ وأمثلتِهِ في الإقناعِ، ويدخُلُ في هذه، المنهجيةِ وتجنُبِ الدوغماتيةِ وتجنب الإكراهِ واستعمالُ القدوةِ وإظهارُ الفوائدِ العمليةِ مع الفوائدِ الإيمانيةِ من كل التزامِ تربويٍ وإظهارِ الفوائدِ النفسيةِ المرتبطةِ بالاطمئنانِ الذي يبحث عنه الناسُ بكل الوسائلِ ثم إظهارِ الأمثلةِ من الواقع لاسِيما الأمثلةُ من السيرةِ النبويةِ ومن حياةِ الصحابةِ ومن مناقبِ الصالحين مع إظهارِ البعدِ الاجتماعِيِ وفائدتِه في صلاحِ الأفرادِ ثم إظهارِ البعدِ السياسيِ من خلالِ التمسُّك بأخلاقِ المواطنةِ الصالحةِ التي هي دِعامةٌ للهُوِيَّةِ الدينيةِ وللقيمِ الإنسانيةِ.

بَينَ اللهُ لنا في القصةِ أن بإمكانِنا أن نُظهِر الفائدةَ العملية الدنيوية من الشكرِ بالنسبة للشاكر، وهذا التوجيهُ يُظْهِرُ بأن الدينَ جاءَ لمصلحةِ الإنسانِ، مع تحريرِ الناشئةِ من الصورةِ الباطلةِ التي تُظْهِرُ الدينَ على أنَّهٌ خضوعُ الإنسانِ لُسلطةِ عليا تُحِبُّ التسلُطَ والانتقامَ والتعذيبَ.

إن المعوِّلَ في هذا المشروعِ التربوي القرآني على المربين الذين ينبغي أن يَتَّصِفوا بشيءٍ من شفقةٍ لقمانَ الحكيم، حتى تَنجَحَ تربيتَهم على القيمِ أمامَ الله وأمامَ الناس وأمامَ ضميرِ الفردِ حتى لا يَشْقَى.

إن الواقعَ الحالي في عالم المسلمين يُظهِرُ بعضُ المدارسِ شِبهَ محايدةٍ إزاءِ تعليم هذه القيم العليا، وفي ذلك خسارةٌ كبرى، وبعضُ المدارس يُعلِّمُ الدينَ بطريقةٍ لا تُفضِي إلى تنزيلٍ عمليٍ، وهذه خسارةُ أخرى مثل الأولى أو هي أشدُّ، ولكن الأدهَى والأمرَّ هو أن يُعلِّمَ بعضُ الناس الدينَ في مدارسِهم أو مجالسهم تدريساً لا يَحْمي العقلَ من نوازع العُنْفِ.

إن التقصيرَ في تعليم الدين على أساسِ ما جاء به من المسئولياتِ يَخلُقُ فَراغاً لابد أن يُملَأَ .

إن التعليمَ يقدِّمُ المعلوماتِ ويكسب المهاراتِ وعليه يتوقف الكسبُ وتوفيرُ أسبابِ العيش بما يكفي وبالجودةِ المطلوبةِ، ولكنَّ الإنسانَ أحسَّ في كل وقتٍ أنه بحاجةٍ إلى قواعدٍ لتصريفِ الحياةِ سواءٌ باعتبارِهِ فرداً أو متساكِناً مع الجماعة، ومن التعوُّدِ والالتزامِ يَتَحَصَّلُ هذا الذي يُسمَّى التربيةَ على قيمَ المسئوليةِ، ولكن الدراساتِ النفسيةَ تجاوباً مع هذا الاحتياجِ أنتَجَتْ أدبياتٍ غزيرةً بدأت على الخصوص في أمريكا الشمالية تَعملُ على إقناعِ الناسِ بأنواعٍ من السلوك الشخصي، نُورِدُ لتوضيحها ثلاثةُ مفاتيحَ لهذه الأدبياتِ:  

أولا: مصطلحُ الإيجابية ِالذي تروِّجُ له هذه الدراساتُ النفسيةُ؛how to be positive، ويقابله في القرآن الكريم مصطلحُ الشكرِ الذي تتحقق به الغايتان، الدنيويُ والأخرويُ.

ثانيا: مصطلح النجاح، successful life، ولو وقع النظرُ إليه من جهةِ القرآنِ لَظهرَ أنه مكفولُ بالسعيِ، وإنما ينبغي أن يكونَ مبنياً على اتخاذ العملِ في الدنيا مَطِيَّةً للفلاح في الآخرة؛

ثالثا: مصطلحُ الاعتمادِ على النفس self relianceوهو محمودُ، إذا كان يوافِقُ الدينَ من قبيل العزمِ المذكورِ في قصةِ لقمان أو إذا كان يستمِدُّ من التوكلِ على اللهِ ومن قصدِ السعيِ المشروعِ، ومذمومٌ إذا انقطع عن الله.

وكخاتمةٍ لهذا الحديث أود أن أقول: إن الُمساءلةَ أي المحاسبةَ كما ورد ذكرُها في القرآن تتعلقُ بالآخرةِ في معظمِ الآياتِ، أي بما بعد الموتِ، ومدارُ التربيةِ القرآنيةِ هي الاعتدالُ بين حياةِ الدنيا والآخرة، أي أن المُساءَلَةَ التي ينبغي أن يُتربَى عليها المسلمُ إذا صَحَّتْ بشرطها والعزمُ المحاذي لها هي التي تنفعُه ُفي الحياةِ الآخرة بعد أن انتَفَع بها في الدنيا، فاستحضارُ الموتِ ليس للحزن والغبن والأسى بل للأملِ في الله الذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلُوَ الناسَ أيُّهم أحسنُ في الدنيا عملاً، وإن كثيرا من التِيَّاراتِ الفكريةِ كادت تُدخِلُ في أنفُسِ المسلمين عقدةَ الحياةِ فلا يتحدثون إلا عنها وكأنما هم بحاجةٍ إلى البَرهَنَةِ على أن الإسلامَ دينُ الحياةِ. فالموتَ بالنظر الإيجابي لا بد أن يحضُرِ في أي تربيةٍ سليمةٍ على المسئوليةِ في هذه الدنيا، ولقد بين العلماءُ هذا القدرَ العظيمَ للموت في حياةِ الإنسان، ومن هؤلاء العلماءِ الشيخُ الهنديُ الشهيرُ وحيدُ الدين خان الذي خصَّص للموت بهذا المعنى كتاباً بعنوان ” القضية الكبرى”.

واسمحوا لي يا أمير المؤمنين أن أذكر في هذه الحضرة مسألة خفيفة لمجرد الإخبار:

وهي أن أحد حكام الهند وهو المهراجا جاغات جيت سينغ باهادور، حاكم إمارة كابور ثالا، في إقليم البنجاب، ولم يكن مسلما، وإنما كان على ديانة السيخ، زار المغرب عام 1922، واستقبله جدكم السلطان مولاي يوسف ووشحه بالحمالة العلوية الكبرى، وقد أعجب هذا المهراجا بعمارة المساجد بالمغرب، ولاسيما مسجد الكتبية وقام ببناء مسجد يماثله في إمارته، وبعد أن مضى عل البناء أزيد من ثمانين عاما قامت جماعة من المسلمين والهندوس والسيخ قبل سنتين بتجديد هذا المسجد تجديدا كاملا، إن هذا المسجد يذكر الناس في الهند بالمغرب وبجدكم السلطان المجاهد محمد الخامس رحمة الله عليه.                

وفي الختام أدعو اللهَ في هذا المجلسِ المبارَكِ وبيقينٍ جازمٍ بأن اللهَ يَقبَلُ الدعاءَ بحضرتِكم يا أميرَ المؤمنين أن يُوَفِّقَ اللهُ المسلمينَ الذين تَجمعُهم مقوِّماتُ التربيةِ على المسئولية سواءٌ كانوا في الهند أو في المغرَب أن يتعاونوا على نَفْخِ روحٍ جديدةٍ في تعليمِ أبنائهم حتى يكونوا في مستَوَى الكتابِ الذي أُورِثُوهُ، وأسأل اللهَ تعالى أن يزيدَكم رِفْعةً في مقامِكم يا أميرَ المؤمنين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، والخَتْمُ من جنابِكم المنيف.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

باستمراركم في تصفح هذا الموقع، نعتبر أنكم موافقون على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" أو التقنيات الأخرى المماثلة لها والتي تتيح قياس نسب المتابعة وتقترح عليكم خاصيات تشغيل ذات صلة بمواقع التواصل الاجتماعي أو محتويات أخرى أو إعلانات قائمة على خياراتكم الشخصية

موافق

This will close in 0 seconds