تناول الاستاذ طبيح عبد الكبير المحامي بهيئة الدار البيضاء في ملف “”خاص “بجريدة الصباح ” الرائدة ردا عميقا من حيث الطرح و جوهريا من حيث المضمون و مهيكلا من حيث البناء ومؤطرا من حيث القانون على ما جاء في مقال لوزير العدل عبد اللطيف وهبي ، نظرا لاهميته و في اطار تشجيع النقاش العمومي حول أهم مشروع قانون يخص المساطر القضائية فان جريدة 20 دقيقة تعيد نشره وفق ما جاء في جريدتنا “الصباح ” :
تداولت بعض مواقع التواصل الاجتماعي مقالا يحمل توقيع وزير العدل، ويظهر أن محرره كتبه بقلق كرد فعل غير مفهوم على نقاش عاد هم مشروع قانون المسطرة المدنية.
كان من المفروض عليه أن يثمن وأن يشجع مثل هذه المبادرات، لأن تشجيع تداول النقاش العمومي في أي نص من القانون من شأنه تحقيق مبدأ التشاركية المنصوص عليها في الدستور،
و يرفع من قيمة بلدنا بين الدول الديموقراطية التي تولي أهمية بالغة للرأي العام فيها.
عبد الكبير طبيح *
من غير المنازع فيه أن الدولة الديموقراطية هي دولة الحق والقانون، أي أن القانون الذي تريد حكومة معينة أن تطبقه على المواطنين يجب أن يكون حاميا لحقوق المواطنين ومحصنا ومطورا لها، لما فيه خير للدولة والمجتمع. ولسنا في دولة القانون التي تفرض فيها حكومة معينة قانونا على المواطن حتى ولو كان مخالفا للدستور، معتدة فقط أنها تملك أغلبية عددية في البرلمان.
علما أن النقاش الذي دار حول مشروع قانون المسطرة المدنية شارك فيه خيرة أساتذة كلية الحقوق المتخصصين في قانون المسطرة المدنية وقضاة ومحاميات ومحامون وعدد من المهتمين بمجال القانون، سواء بواسطة مقالات أو محاضرات، في الجامعة والبرلمان وغيرهما من الأماكن.
تعامل بعيد عن العقل والرزانة
وجه الانفعال والقلق يتجلى في العبارات التي استعملها محرر المقال. وهي عبارات تغرف مما يتجنبه الراشدون في التعامل مع الغير، أي التعامل بتواضع العارف المتسم بالاحترام عندما يتوجه بالكلام لغيره، وليس التعامل الذي لا يتحكم حتى في قلمه ويتركه ينفلت عن التعقل و الرزانة ليكتب عبارات لم تبق تتداول حتى في الدرك الأسفل من ثقافة أي مجتمع.
هذه العبارات نجد محرر المقال قد أثث بها مقاله مثل:
(التأويلات الشاذة….) و(تقديم قراءة شاردة….) و(التشكيك في دستورية المشروع…) و(تسفيه عمل المؤسسات…) و(ممارسة نوع من الوصاية على ممثلي الأمة…). و(الفئوية الضيقة…..). “. وغيرها من العبارات التي لا تليق لا بالصفة ولا بالاسم اللذين وقع بهما ذلك المقال.
علما أن استعماله لعبارة (الفئوية الضيقة…) قصد بها محرر المقال المحاميات والمحامين. بشكل متعمد، وبدأ بها مقاله في الفقرة الأولى منه وختم بها المقال نفسه في الفقرة الرابعة قبل الأخيرة منه، وهو ما سأعود إليه في ما بعد.
مع العلم أن النقاش الذي عرفه مشروع قانون المسطرة المدنية هو نقاش من مستوى عال. لا نقول بأنه يترجم الحقيقة إذ لا أحد من بيننا يملكها كاملة، بل نقاش فيه تعبير عن الآراء قد تكون صائبة وقد تكون غير ذلك، لكنه نقاش يريد تشغيل مقتضيات الدستور. فكان لزاما على محرر المقال أن يرتقي بعقله ويحاول أن ينهل مما هو أعلى وأرقى التعابير والكلمات والجمل وهو يحاول الإجابة عن تساؤلات المواطنين، وليس أن يرجع الى عبارات من الدرك الأسفل من الكلمات.
وحتى لا نقف عند هذه الملاحظة ذات الصلة بآلية الخطاب الأخلاقي التي يجب أن يسلكها الإنسان العادي، فإن محرر المقال أراد الرد على الانتقادات التي وجهت للمادة 17 الجديدة، فحاول استعمال بعض الصيغ التي يستعملها المجلس الدستوري والمحكمة الدستورية، وهما صيغة (أن القانون غير مخالف للدستور)، وصيغة (أن القانون ليس في القانون ما يخالف الدستور)، وكأنه يريد أن يستبق الإصدار حكم دستوري على المشروع غير ملتفت لدور المحكمة الدستورية.
ومع ذلك فإن محرر المقال لم يميز بين الصيغتين، أي لم يعلن هل مقتضيات المادة الجديدة 17 مطابقة للدستور أم أنها فقط ليس فيها ما يخالف الدستور؟
بل استعمل عنفا لفظيا غير مسبوق وغير مقبول أن يصدر باسم من عهد له بأكبر وزارة في أي حكومة في الدول الديموقراطية.
وبما أن المقال موقع باسم عضو في الحكومة، أي رجلا سياسيا بحكم مهامه فإن ما ورد في ذلك المقال يستلزم ردا سياسيا، وبعد ذلك ردا حول حقيقة خرق المشروع للدستور.
حول الرد السياسي على ما ورد في المقال
الملاحظة السياسية الأولى
من غير المفهوم، سياسيا، أن ينشر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل للرأي العام في اليوم الموالي الذي حضر فيه رئيس مجلس النواب المنتمي للأغلبية الحكومية نفسها. وهو المقال الحامل لرأي مخالف لرأي رئيس مجلس النواب، لا في أسلوب التعامل ولا في الخلاصات التي انتهى إليها رئيس مجلس النواب.
ولقد استمع كل المتتبعين للإذاعة الخاصة التي استقبلت رئيس مجلس النواب، وهي إذاعة محترمة ويديرها صحافيون معترف لهم بالمهنية وباهتمامهم بالشأن العام في دقائقه التي تلامس حياة المواطنين.
والكل لاحظ التفاعل المسؤول لرئيس مجلس النواب مع نقاش المجتمع المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية. كما لاحظ الجميع استعماله للعبارات والكلمات والهدوء الذي يترجم وعي الرجل بالمسؤولية التي يجب أن يراعيها من يعهد له بتدبير الشأن العام.
ذلك التفاعل الإيجابي مع النقاش المجتمعي ترجم من قبل رئيس مجلس النواب بإعلانه عن قرار إحالة مشروع القانون على المحكمة الدستورية بعد أن تنتهي مسطرة التصويت عليه في المجلسين. وهو موقف يسجل بإيجابية لرئيس مجلس النواب. ويشكل تجاوبا عاليا ومختلفا كل الاختلاف عن الأسلوب والعبارات والكلمات التي اختارها محرر المقال الموقع باسم وزير العدل في رده على نقاش مجتمعي راق.
ومن الملاحظ أن محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل اختار التموقع في موقف معاكس بشكل واضح لموقف رئيس مجلس النواب، مع أن رئيس مجلس النواب يعتبر الشخصية الثانية في الأغلبية الحكومية بعد رئيس الحكومة، والشخصية الثالثة في هرم الدولة، وصاحب صوت مسموع في القرارات السياسية للحكومة بحكم موقعه كذلك في الحزب الأول في الحكومة.
هذا الموقف المعاكس الذي اتخذه محرر المقال يطرح إشكالا سياسيا كبيرا وسؤالا حول مدى انسجام تدبير وزارة العدل مع السياسة العامة للحكومة، في مجال العدالة التي يترأسها رئيس الحكومة.
ويمكن مقارنة الأسلوب والعبارات التي رد بها رئيس مجلس النواب على أسئلة الصحافيين، مع الأسلوب و العبارات التي استعملها محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل، الذي ردد عدة مرات جملا وعبارات أراد أن يحتمي خلفها من أجل إعطاء شرعية مزعومة لمنع أي نقاش حول مشروع القانون، مثل استعماله لعبارات: (التشكيك في دستورية المشروع…)-(تسفيه عمل المؤسسات…)-(ممارسة نوع من الوصاية على ممثلي الأمة…).
هذه العبارات المتسمة بالعنف اللفظي البالغ الأثر السيئ، ما كان على محرر المقال أن يوجهها لمن يبدي رأيه في مشروع قانون، لأنها عبارات تخدش في العمق الحياء العام وتتعارض مع واحد من الحقوق الأساسية التي أتى بها دستور 2011 وهو حرية الرأي والتعبير.
الملاحظة السياسية الثانية
هي مستخلصة من أن محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل وهو يحاول اتهام الغير بفرض وصاية على ممثلي الأمة، نسي أنه هو من أراد فرض وصايته على ممثلي الأمة.
ذلك أن محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل يعلم بأن مشروع قانون المسطرة المدنية لم تعترض عليه فرق المعارضة فقط، بل لم تصوت عليه الأغلبية المطلقة من الأغلبية الحكومية.
وأنه يظهر أن محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل لا يعلم بأن الأغلبية الحكومية في مجلس النواب تتكون من 292 عضوا، بينما الذين صوتوا لفائدة المشروع من نواب الأغلبية الحكومية لم يتجاوز 103 أعضاء. أي أقل من ثلث الأغلبية الحكومية، وتضامن معهم صوت لعضو واحد مسجل مع المعارضة.
وهو ما يعني أن 189 من نواب الأغلبية الحكومية لم يصوتوا على مشروع وزير العدل، أي أن هذا الأخير لم يستطع إقناع أغلبيته الحكومية التي ينتمي إليها في مجلس النواب بأن مشروعه مطابق للدستور ويحمي حقوق المتقاضين.
فكيف يحتج محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل على من يوجد خارج مجلس النواب واكتفى فقط بمناقشة ذلك المشروع.
إن ممثلي الأمة الذين يتكلم عنهم محرر المقال لم يصوتوا على مشروع قانون المسطرة المدنية، لأن 189 من الأغلبية الحكومية يضاف لها 35 من المعارضة، لم يصوتوا على مشروع قانون المسطرة المدنية، أي ما مجموع 224 عضوا من أعضاء مجلس النواب، أي أكثر من الأغلبية المطلقة لمجلس النواب. بينما عدد الذين صوتوا من الأغلبية هو أقل من ثلث أعضاء مجلس النواب.
محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل إما أنه لا علم له بالسياسة ولا بمشروع القانون ولا كيف تم التصويت عليه، أي انه خارج دائرة تتبع الشأن العام. أي أنه طلب منه كتابة ذلك المقال. فقام بتحريره بناء على ما سمع به فقط، أي بـ ” الدمغي”، كما يقول المغاربة، وهذه مصيبة سياسية. وإما أن محرر المقال الذي يحمل توقيع وزير العدل هو عالم ومتتبع لذلك المشروع وعارف بأن المشروع لم تصوت عليه الأغلبية الحكومية. ومع ذلك أخفى هذه المعلومة عن الرأي العام في مقاله. وهنا تكون المصيبة السياسية أعظم.
وبما أن المشروع لم تقبل به الأغلبية المطلقة للأغلبية الحكومية. فإن ذلك يفسر في علم الفكر السياسي والتقاليد البرلمانية بأن ذلك المشروع فاقد للشرعية السياسية، أي فاقدا لقبول ممثلي الأمة به. فكيف يمكن لمحرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل الادعاء بكون مشروعه يمثل إرادة ممثلي الأمة، بينما العكس هو الصحيح أي أن ممثلي الأمة لم يصوتوا على ذلك المشروع.
وفي نظر محرر المقال من هو الذي يفرض الوصاية على إرادة ممثلي الأمة؟ هل الذين يناقشون مشروع القانون؟ أم هو الذي ينسب لممثلي الأمة أنهم وافقوا على ذلك المشروع، بينما الحقيقة هي العكس، أي أن ممثلي الأمة لم يصوتوا على ذلك المشروع؟
الفشل في إقناع ممثلي الأمة
الخلاصة التي يريد محرر المقال التعتيم عليها هي الفشل في إقناع ممثلي الأمة بمشروعية قانونه، سواء ممثلي الأمة المنتمين الى أغلبيته الحكومية، أو ممثلي الأمة المنتمين للمعارضة.
والحقيقة السياسية المرة التي أراد محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل التستر عليها، هي أن الأغلبية المطلقة لجميع أعضاء مجلس النواب لم تصوت على مشروعه.
فكيف يتهم محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل من أبدى رأيه فقط في مشروع القانون بأنه يشكك ويسفه ممثلي الأمة والمؤسسات، بينما الأغلبية المطلقة لممثلي الأمة كذبوا هذا الادعاء بعدم تصويتهم على المشروع أصلا؟
من المفروض أن محرر المقال يعلم بأن القوانين العادية لم يشترط الدستور للتصويت عليها أي نصاب حضور أعضاء مجلس النواب، لا في حده الأعلى ولا في حده الأدنى، بخلاف الأمر عندما يتعلق بالتصويت على القوانين التنظيمية.
وعدم نص الدستور على نصاب معين بالنسبة للتصويت على القوانين العادية، ليس راجعا لسهو أو خطأ من قبل المشرع الدستوري، بل هي إرادة واعية ومؤسسة على مبدأ إلزامية حضور كل أعضاء مجلس النواب بمجرد افتتاح السنة التشريعية بخطاب لجلالة الملك.
فحضور أعضاء البرلمان هو حضور قائم ومحقق إما بالحضور الفعلي في الجلسة العامة، أو بالحضور المفترض دستوريا. لهذا لا يوجه رئيس المجلس استدعاء فرديا وشخصيا للنواب لحضور الجلسات العادية.
ومن المفروض كذلك على محرر المقال وهو يخوض في مجال السياسة أن يعلم أن غياب عضو من أعضاء مجلس النواب أثناء عملية التصويت يفسر سياسيا، في كل البلدان الديمقراطية، بأنه تعبير عن رفض العضو للمشروع برفض التصويت لإجازته.
لهذا تابع الرأي العام الموقف الحازم والمسؤول الذي أعلن رئيس مجلس النواب في نهاية التصويت بأنه سينشر أسماء أعضاء مجلس النواب الذين لم يحضروا للتصويت لفائدة مشروع وزارة العدل، واعتبر أن الحاضرين سيدخلون التاريخ.
بينما في رأيي فإن الذين سيدخلون التاريخ هم 224 عضوا من مجلس النواب الذين لم يصوتوا لفائدة مشروع وزارة العدل.
وهذا العدد الكبير من أعضاء الأغلبية الحكومية الذين لم يصوتوا على مشروع وزارة العدل يشكل سابقة برلمانية، وفشلا في إقناع الأغلبية الحكومية بما ورد في المشروع.
لهذا فإن الحكومات في الديموقراطية عندما تعارضها أغلبيتها ولا تصوت لها على مشروع قانون معين فإنها تقوم بسحب ذلك القانون. وتعتبر، أي الحكومة، أن الوزارة التي كلفت بذلك المشروع قد فشلت في إقناع أغلبيتها. فما بالك بإقناع المعارضة أو المجتمع بكامله.
مع أن ما يطالب به المجتمع بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية ليست فيه مطالبة بتكاليف مالية إضافية على الميزانية سترهق مالية الدولة، بل فقط المطالبة بالإبقاء على حق المواطن في اللجوء الحر للقضاء بدون تهديده بالحكم عليه بالغرامة، وبدون تمييز بينه وبين من يملك مالا أكثر منه، وبدون تمييز بين جهات المملكة، لأن الدستور يمنع التمييز بين المواطنين في ما بينهم، وبينهم وبين الإدارة، وبين جهة وأخرى، كما هو واضح من الفصل 6 من الدستور.
وعندما يدعي محرر المقال الحامل لتوقيع وزير العدل بأن النقاش لم يقدم أي أمثلة على خرق المشروع للدستور، فإنه يؤكد مرة أخرى بكونه لا علم له على الإطلاق ولم يطلع على الإطلاق ولم يتابع على الإطلاق النقاش الدائر حول المشروع، لأن الأساتذة الجامعيين والقضاة والمحاميات والمحامين والحقوقيين تناولوا المشروع فصلا فصلا من كل جوانبه، وقدموا الأمثلة الدامغة على خرق بعضها للدستور.
فمحرر المقال كان عليه، كما تفرضه ممارسة السياسة بالأخلاق، أن يستفسر أولا لماذا الأغلبية الحكومية المطلقة في مجلس النواب لم تصوت له على مشروعه؟ وليس أن توجه بالعنف اللفظي لمن أبدى رأيه في ذلك المشروع.
أما بخصوص الأمثلة على خرق الدستور في مشروع القانون سنعرض بعضا منها لتذكيره.
انتهى الجزء الاول :