بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لقد كشفت جائحة كورونا لعدد كبير من الباحثين وصناع القرار من بينهم مدير معهدBrookings institution جون الين والديبلوماسي الأمريكي السابق نيكولا بورنز أن العالم يمر بأكبر أزمة على المستوى العالمي خلال ق21، نظرا لتهديده لأزيد من ثمانية مليارات شخص، وانتشاره في حوالي 215 دولة( صبغة عالمية، سرعة في الانتشار ، تلقيح غير متوفر إلى يومنا الآن)، أزمة جعلت البشرية برمتها تتواضع ، كل الدول تعيش وضعية صعبة غير مسبوقة، وظروف اقتصادية قاسية وانعكاسات اجتماعية مؤلمة خاصة على الفئات الهشة، عشرات الملايين من المغاربة مهددين بالفقر، ظروف استثنائية تضع صناع القرار في وضعية حرجة،لأن التدخل يجب أن يكون دقيقا وفعالا ،ولتجنب الدخول في غمار تداعيات خطيرة، لأن”لا شيء سيعود كما كان الأمر عليه” ، وكما عبر جزء من الشعب الأمريكي أثناء ضغطه على رفع الحجر الصحي “كورونا تقتل والفقر يقتل”.
في خضم هذه الأزمة برزت ثلاثة فئات بثلاثة سيناريوهات:
الفئة الأولى:اعتبرت الحدث هو يدخل في خانة حدث طارئ ، سينتهي كما انتهت الأوبئة السابقة كانت أشد وطئا وفتكا ،وفي عصور بدون إمكانات ووسائل عالم اليوم الضخمة. وعليه سيستمر الوضع العالمي كما كان عليه، نظام ليبرالي غربي متحكم.
الفئة الثانية: اعتبرت أن جائحة كورونا تدخل في صنف الأحداث التي كان لها بالغ الأثر مثل الحرب العالمية الأولى،والحرب العالمية الثانية، هدم جدار برلين ،11 شتنبر 2001، وعليه ستكون إعلانا صريحا بصعود الصين لقيادة العالم على الأقل مع أمريكا ولما لا بمفردها.
الفئة الثالثة:تركز بالخصوص على الوضع الداخلي للدول وعلى قوة نفوذ أجهزتها التنفيذية، ومدى احترامها لحقوق مواطنيها كانت سياسية و مدنية، أو اجتماعية واقتصادية وبيئية..
وعلى هذا الأساس، هل الدول ستصبح أقل انفتاحا ؟ وأقل حرية؟ وأكثر فقرا ؟وهل ستضطر تغيير بعض وظائفها أو ترتيب بعض أولويات سياستها العمومية ؟
لكن بعيداعن كل هذه السيناريوهات ومدى واقعيتها، فإن الزمن” الكوروني” وضع الدول والمجتمع معا في وجوب التفكير في تدبير أزمة كورونا تحجيما لتداعياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية البالغة، بل والتفكير أيضا في كيفية التعامل في ما بعد كورونا، فإذا كانت الدولة والمجتمع وجهان لعملة واحدة، فما هي شروط انسجام وتكاملهما لتحقيق هذه الأهداف؟ثم هل من آليات تدبيرية لهذه الازمة ولكل أخواتها في المستقبل ؟ أسئلة سنحاول تسليط الضوء عليها من خلال :
المحور الأول: الدولة بين تراجع نظريات وبروز أولويات
إن خريطة الدول من خلال سياستها العامة والعمومية حتما ستعرف تغييرات جوهرية بعد جائحة كورونا لأن هذه الحكومات الوطنية التي ستسترد المزيد من القوى للأخذ بزمام الأمور للحد من الأزمة بإجراءات فعالة ستعلن في البدء سقوط- أو على الأقل تراجع-مجموعة من النظريات:
أولا :التكامل الأوروبي الذي صمد رغم الهزات المالية كأزمة2008 -2009، تكامل اقتصادي بدون حس انساني أو على الأقل تضامن التشاركي (صراع الكمامات).
ثانيا: مفهوم العولمة والنظام النيولبراليالذي كان سببا في تقليص نفوذ الدولة القومية من خلال تيسير انتقال المعلومات والسلع والأموال والأفكار والعادات الاجتماعية والثقافية من الغرب المهيمن إلى باقي دول العالم .
ثالثا:نظرية الاعتماد المتبادل الساعية إلى انخفاض أهمية وقيمة العلاقات الأمنية والعسكرية بين الدول ، إلى الرفع من أهمية الشق الاقتصادي والاجتماعي، لكنها لم تؤدي أهم وظائفها خاصة السلم الدولي.
رابعا : هشاشة التفكير الأمني التقليدي للدول والذي كان سببا في إغفال التهديد الصحي.
خامسا:خروج الديمقراطية الغربية من قوقعتها للبحث عن نماذج أكثر أمانا للتعاون المشترك.
في المقابل ستنحاز غالبية الدول -ولو بشكل مرحلي- نحو:
أولا:انكفاء على الداخل للسنوات القابلة على المدى القريب، وعلى المدى المتوسط
ثانيا:البحث عن الاكتفاء الذاتي مع عدم رغبة العديد من الدول مناقشة بعض القضايا الخارجية-المجمدة أصلا قبل الأزمة- من قبيل (الهجرة، المناخ، البيئة…)، بهدف تخصيص الموارد الضرورية للتعافي من الأزمة.
ثالثا: عودة الدولة الوطنية إلى مربعها الأصلي، حبل النجاة داخل حدودها وفي حدود إمكانياتها وقدراتها الداخلية.
على المستوى الوطني و أمام التحديات التي تعيشها وستعيشها الدولة، من تداعيات للأزمة عل المستوى الصحي والاقتصادي والاجتماعي والمالي، وبعيدا عن جميع الإجراءات الاستباقية والاحترازية ..، لابد في تقديري من إعادة ترتيب أولويات سياستها العمومية :
أولا :إعادة النظر في دورها الأساسي خاصة في بلورة مخطط وطني ” سياسة الإنعاش” في مقابل الفرضيات التقليدية التي تستهدف فقط التوازنات المالية على حساب التوازنات الاجتماعية والبشرية التي لم تعد تفي بالغرض.
ثانيا:إعادة النظر في الحوكمة الصحية،الخدمات العمومية وفي الحماية الاجتماعية والاستثمار العمومي.
ثالثا :إعادة النظر في الاستثمارات العمومية خاصة :القطاعات الاستراتيجية والحيوية( الصحة والتعليم، التشغيل..).
رابعا :إعادة النظر فيتدخل الدولة في الاقتصاد.
خامسا:إعادة النظر في القطاع غير المهيكل”الناس تعيش اليوم باليوم”
سادسا :الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من أجل تنمية قوامها العدالة الاجتماعية.
سابعا :الفوارق الاجتماعية وإشكالية هشاشة المقاولات الصغرى والمتوسطة.
ثامنا :الاخذ بعين الاعتبار تداعيات ازمة كورونااثناء صياغة جميع مخططات القطاعات الاستراتيجية المنتهية خلال سنة 2020 .
تاسعا:الاسراع في تفعيل وتنزيل الإدارة الالكترونية Digitalisation de la sphère publique
إن جائحة كورونا وضعت الدولة أمام مسؤوليات متعددة ومعقدة، وجب معها التفكير في تعديل عدد كبير من سياستها العمومية ، وإلتقائية في تنزيل برامجها، لكن هل الثقة التي فقدها المجتمع ببعض أو جل مؤسساتها يمكن أن تعيده الأزمة؟
المحور الثاني: الدولة والمجتمع: الثقة المفقودة و التكامل المنشود
لقد حظي مفهوم المجتمع بالدراسة والتحليل والمتابعة من قبل العديد من المفكرين والباحثين خاصة بعد التحولات التي عرفها دور الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، أعمال المجتمع لا تعد بديلا عن دور الدولة،رغم الدور الهام الذي يلعبه في تعزيز ثقة المواطنين في الدولة وهو مدعاة للاستقرار الاجتماعي.
يعتبر المجتمع ركيزة أساسية من ركائز إدارة الأزمات:
o دعم عملية التواصل أثناء الازمات:الأزمات هي أزمة معلومات وتواصل بامتياز، وعليه فدور المجتمع في التعريف بماهية الازمة ، خطورتها ، وفي مخاطبة المواطنين بشكل مباشر مع تبسيط الخطاب، ، وخلق أجواء إيجابية مسألة بالغة الأهمية.
o الدور العملي الميداني:الأزمات تتطلب عملا ميدانيا مسترسلا، يتوخى منه المواساة و دعم الفئات المتضررة، نحو مواكبة وإنجاح كل أشكال التضامن.
o الدورالتصحيحي: تصحيح أنواع التجاوزات التي تقع داخل رقعة جغرافية ويتضرر منها المواطنات والمواطنين ، دعما لأدوار المراقبة وخاصة أن حالة الطوارئ يمكن أن تتبعها مجموعة من التجاوزات لحقوق الأفراد والجماعات.
خلال أزمة كورونا يمكن استنتاج أن علاقة الدولة بالمجتمع، اتسمت منذ صدور مرسوم بقانون رقم 2.20.292 الصادر في 28 من رجب 1441 الموافق 23مارس 2020 والمتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية بالتفاعل الإيجابي من طرف المجتمع وذلك من خلال خضوع جميع مكوناته للحجر الصحي والالتزام بمقتضياته. وحينما تم الإعلان عن مبادرة تأسيس الصندوق الخاص بكوفيد 19، وجه المجتمع للدولة تحية أحسن منها لأن التضامن من أخلاق الشعب منذ قدم العصور.
لا يخفى على أحد أن قبل انتشار فيروس كورونا كان المجتمع بجميع أطيافه يوجه سخطه وعدم رضاه على عدد من مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسات الاستشفائية، لكن أثناء الأزمة تغير الأمر، فيا ترى ما الذي تغير؟الشيء الذي تغير هو أن المواطنات والمواطنين لاحظوا تفاني أطر الصحة في خدمتهم بل وعرضوا حياتهم من أجلهم ، والذين يستحقون كامل التقدير والاحترام .
وهكذا نجد أن علاقة الدولة بالمجتمع تميزت بالخضوع والامتثال إلى المشاركة بل المبادرة، وعليه إذا كان التكامل بين الدولة والمجتمع مطلب أساسي ،فإن سنده الأساسي الثقة خلال الأزمات وما بعد الأزمات ،فكلما قامت الدولة بدورها ،كلما ازداد منسوب الثقة في مؤسساتها، بل وانخراط جميع مكونات المجتمع في دعمها شريطة توفر الدولة على مقومات الشرعية والمشروعية “سيادة القانون مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان”.
ختاما
لقد عبر المغرب (الدولة والمجتمع ) أنه يمتلك قدرة هائلة للخروج من الأزمات، لكن حذاري من تحول وضياع هذه الوصفة التي ستخرجه من الورطة حينما يعود لوضعه الطبيعي،فهل ستضعف كل مبادرات الدولة والمجتمعا لتي توحد الجميع في مصب واحد زمن الأزمات وتتحلل أمام مقاومات الجهات المستفيدة ؟ وهل يصير الشعب ومبادراته وصور من تضامنه فقط جزءا من النوستالجيا الجميلة؟
د يوسف هركان
أستاذ القانون العام بكلية الحقوق تطوان