النسويَّة في بعض غلوائها لا تعدو ضربًا خاصًّا من التصوُّف، لها شطحها، وتواجدها، ومشاهداتها، وغيبوباتها عن سنن الله في كونه! كأنما تأخذ بمراتب فلسفة التصوُّف الأربع في الاتصال بالذات العَلِيَّة: التواجد، فالتجلِّي، فالمكاشفة، فالحلول والاتحاد! وهو اتِّحادٌ بذاتٍ نِسويَّةٍ وهميَّةٍ مفارقةٍ للطبيعة، يختلقها الفِكر الغالي وَحده. وإذا كان هناك مثلًا من ربطَ أصول بعض التصوُّف الإسلاميِّ بالمجوسيَّة، كالمستشرق (ثولوك)(1)، أو بدياناتٍ هنديَّةٍ براهميَّة، كالمستشرق الآخَر (ماكس هرتون)(2)، فلا غُلُوَّ في رؤية أبعادٍ دُغمائيَّة، غير سويَّة، ولا طبيعيَّة، وراء بعض أفكار النِّسويَّة وشطحها.
فليست النِّسويَّة محض مطالبات بحقوق المرأة، كما قد يبدو الأمر لمتابعٍ بادي الرأي، بل هي تيَّارٌ لا يخلو من شطحٍ كشطح (محيي الدِّين بن عربي)، وتفلسفٍ كتفلسف الشيخ الأكبر، الذي وضع- من طرائفه- كتابًا بعنوان “القول النفيس في تفليس إبليس“، انتهى فيه إلى (ما يشبه) تقديس إبليس وتفليس الشيخ ابن عربي نفسه؛ إذ أظهر الأوَّلَ منتصرًا على الأخَر، قائمَ الحُجَّة في محاججته إيَّاه في مسألة الجَبر والقَدَر، حتى لقد جعل ابنَ الأبالسة أشدَّ منه تصوُّفًا ومن كلِّ المتصوِّفة العارفين، وأقرب من خلق الله جميعًا إلى الله إيمانًا وإجلالًا! إنها السفسطة، إذن، وشطرنج اللعب بالمفردات اللغويَّة، الذي يعبث بالرؤوس، وتلبيسات الأبالسة في كلِّ اتِّجاه، ومع كلِّ ركبٍ، دِينيٍّ أو دنيوي، ونكرانُ طبائع الطبيعة، ومنطقيَّات العقل، ومفاهيم النقل.
وكذا تفعل النِّسويَّة بنفسها كثيرًا، إذ تُناقِض ما أودع الله في الكون من توازنٍ وتكامل، يكفل لكلِّ عنصرٍ طبيعته وسِماته وخصائصه ووظائفه المختلفة، بحيث لا يطغى على ما سِواه من العناصر. حركةٌ في غُلُوِّها قد تعمل على تحييد العقل، وتنحية منطق الأشياء، في غمرةٍ من دُغمائيَّاتهاالإديولوجيَّة، التي لا ترى إلَّا ما تريد. نقدُ مسلَّماتها تَعُدُّه تخلُّفًا، ومراجعة خطابها تراه محض ذُكوريَّة، ومقاربتها من غير الحزبيِّين والحزبيَّات، المؤمنين إيمانًا أعمى بعقائدها والمؤمنات، تصنِّفه كُفرًا مبينًا بمعلوم من النِّسويَّة بالضرورة!
ولا ينفي هذا- أن النظرة إلى المرأة، في مجتمعنا العربيِّ خاصَّة، ما زالت غير لائقة بإنسان، حتى على مستوى الأنظمة. وهذا أمرٌ معهود، ومستغرب، وقد ناقشنا بعض جوانبه في كثيرٍ من طرحنا، عبر هذه المساقات وغيرها. بَيْدَ أن ذلك شيء، والمغالاة في الاتجاه النقيض، وبحسٍّ متعصِّب، يُفسِد أكثر ممَّا يُصلِح، شيءٌ آخَر. ومن أمثلة النظرة غير السَّويَّة إلى المرأة على مستوى الأنظمة: أن المرأة الراشدة، العاقلة، حاملة الهويَّة الوطنيَّة، بقيت- إلى وقتٍ قريبٍ، وربما ما برحت تطبيقيًّا- ليس من حقِّها الحركة والتصرُّف في كثير من شؤونها دون ورقة إذنٍ من “وليِّ أمرها”- كما يُسمَّى! فهي مرتهنةٌ إلى إحضار تلك الوُريقة، سواء أرادت التعلُّم، أو العمل، أو استخراج جواز سفر، بل حتى للحصول على بطاقة الهويَّة الوطنيَّة، أو التصرُّف في معاملاتٍ ماليَّة، لها، وفي حُرِّ مالها. وكذا منعها أحيانًا من إبرام عقود ماليَّة، من دون وليٍّ (من الذكور طبعًا، وإنْ كانوا صبيانًا سفهاء أو معاتيه، فالمهم أنهم ذكور!)، ومن ممارسة التجارة، بل ربما من مجرَّد فتح حساب في مصرفٍ مالي. وليت شِعري، مَن كان وليُّ أمر (خديجة بنت خويلد) في تجارتها، أو (عائشة بنت أبي بكر) في سياستها؟! وأيُّ تنقُّص من أهليَّة المرأة، ومواطنتها، وإنسانيَّتها، ومن شخصيَّتها القانونيَّة أكبر من هذا؟ وأيُّ أعرافٍ أشدُّ مخالفةٍ لقواعد العقل والنقل من تلك الأعراف؟ وبأيِّ حقٍّ تُربَط المرأة هكذا كالسائمة بإرادة وليِّ أمر؟! وليُّ أمرٍ صفته المعياريَّة الوحيدة أنه (ذَكَر، لا أقل ولا أكثر)، وإنْ كان جاهلًا، أو جاهليًّا! إنه استرقاقٌ مبطَّنٌ للنساء، وإنْ باسم الأنظمة، وأحيانًا باسم الشريعة، التي قد تُكيَّف اعتسافًا أو تُشوَّه اعتباطًا، وَفق مبتغياتٍ لا علاقة لها بصريح الشريعة في كلِّ الأحوال، بل قد تتناقض معها؛ لأنها شريعة الحقِّ البدهيِّ والفطرة السليمة والعدالة المطلقة، لا شريعة الفلسفات والتأويلات، والعادات القَبَليَّة والتقاليد المؤسلَمة، وتحذلق المفتين، هنا وهناك.
ثمَّ إن الأصل أن الشريعة متغيِّرة، ومقاصد الشريعة ثابتة. ذلك ما فقهه (عمر بن الخطاب)، مثلًا، فأدرك أن الشريعة يجب أن تدور مع المقاصد العُليا للإسلام، لا مهيمنة على تلك المقاصد. حيثما يكون الحقُّ والخير والعدل، فثمَّة شرع الله. ليس قطْع السارق- على سبيل النموذج- هو في ذاته مقصدًا إسلاميًّا، كي يصحَّ التمسُّك به، هكذا ضربةَ لازب، وفي كلِّ زمان ومكان، ومهما كانت الظروف. ولذلك فإنه في (عام الرمادة) لم يَعُد مؤدِّيًا مقصده المنشود، بل ربما أصبح مؤدِّيًا إلى ضدِّه، فأبطل عُمَرُ العملَ به، إعلاءً للمقصد التشريعي على حرفيَّة التشريع. والقول الدارج في مسألتنا مدار النقاش، حول وليِّ أمر المرأة، هو: أنَّ في ذلك حفاظًا على سلامة البيوت والعلاقات. وهو كلامٌ لا معنى له؛ لأن النِّظام العامَّ لا ينبغي أن يتدخَّل في البيوت وفي الأمور الخاصَّة. ما شأن النِّظام العامِّ إنْ كان عدم وفاقٍ على أمرٍ ما قد نشب بين زوجَين، كي يتدخَّل هكذا ابتداءً، من دون أن يكون قد لجأ إليه الزوجان، أو استأمناه لترتيب حقوقهما والتزاماتهما؟! إنْ هو إلَّا فضولٌ عشائريٌّ قديم. ذلك أن ما بين الزوجَين من اقتناعات وتراضيات هو شأنهما وحدهما، يسوِّيان ما شَجَر بينهما فيه بينهما، أو عبر دوائر إصلاحيَّة أو قضائيَّة للفصل فيه. أمَّا النِّظام الإداري، فيجب أن يكون للجميع، وأن تكون اشتراطاته منطقيَّة وحياديَّة وعادلة، لا يفترض أشياء استباقًا، وفي طرفٍ دون طرف، ولا يجعل من نفسه وصيًّا على أحدٍ لمصلحة آخَر. ولتقريب المنطق الغريب في تلك التقاليد المتوارثة، لنتأمَّل مقدار الشؤون التي يمكن أن تكون مجال عدم تراضٍ بين الرجل والمرأة، كمغادرة الزوجة بيتها دون إشعار زوجها، مثلًا. لقد يسبِّب ذلك خصومةً بينهما، وقد يستمسك الزوج بحقِّه الشرعيِّ أو العُرفيِّ أو الذوقيِّ في هذا الشأن. فهل يسوِّغ ذلك للنظام العامِّ أن يجعل شرطيًّا على كلِّ باب؛ لكيلا تخرج المرأة إلَّا بورقة إذنٍ من وليِّ أمرها بالخروج؛ خشية أن يكون تصرُّفها ذاك عن غير قبولٍ منه؟! وعلى هذا فقِسْ خروجها من مدينةٍ أو بلد؛ وهو ما ينطبق على كل شأنٍ أسريٍّ خاص. ولأنَّ الأمر هنا بلا منطقٍ ولا معقوليَّة، فإن الأزواج أو أولياء الأمور أنفسهم- كما يُسمَّون- لا يَقِلُّون انزعاجًا ومعاناة منه؛ إذ عليهم أن يُمضوا الأوراق لنسائهم أو بناتهم، وأن يَظَلُّوا ملاحَقِين لمنحهنَّ تلك التصريحات، من أجل بعض الإجراءات الاعتياديَّة لدَى بعض الدوائر والأجهزة الحكوميَّة! لكأنَّ النِّظام الاجتماعي، إذن، في حالة استنفارٍ قُصوَى لحصار النِّسوة كيلا يأبقن من ربقة الرجال! وما ذلك إلَّا من قبيل التضييق والتحكُّم المعطِّل للحياة والمصالح، فضلًا عن أنه بالضِّدِّ من حقوق النساء، بوصفهنَّ من الداخلات في أُفهوم المواطَنة، وقبل ذلك في أُفهوم الإنسان الذي له حقوق مرعيَّة. وكم مِن الرجال، في المقابل، يسلكون سلوكيَّاتٍ تُدمِّر الأُسَر، بل ربما استغلُّوا ثغرات في نظام- كتلك التي تحكِّمُهم في أشياء كثيرة، مبيحةً لهم من الحُرِّيَّات ما لا تبيحه للنساء- في ممارسة الظُّلم والاستبداد والسطو على الحقوق!