إذا كنا مجمعين على أن التنمية في أبعادها الشمولية، فعل يستوجب تدخل الدولة وتوجيهاتها بما تملكه من إمكانيات قانونية، بشرية ومالية من جهة أولى، وتحمل مسؤولياتها عن مدى نجاح أو فشل تلك التدخلات والتوجيهات من جهة ثانية. وباعتبار التنمية عموما، حتى دون ربطها بنموذج أو رؤية أو مخطط، هي فلسفة وسياسة الدولة في الميادين الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية والحقوقية وغيرها من المجالات ذات الصلة بالمواطن فيما يخدم كرامته ويصونها ويضمن حقوقه ويحفظها.
وإيمانا منا، بأن مشكل محدودية التنمية وفشل مشاريعها ونماذجها، أو ما يمكن تسميته بأعطاب التنمية عموما، إن لم تعالج في الوقت المناسب واللحظة التاريخية الملائمة، تصبح جروحا مفتوحة على المستقبل، وعبئ ثقيل مثبط لأي نماذج إصلاحية جديدة مرتقبة.
وفي سياق ما يمنحني إياه لقب مواطن مغربي من أحقية المساهمة في كل النقاشات العمومية التي من شأنها الرقي بهذا الوطن ونمائه وصيانة مكتسباته والذوذ عن مقدساته وتثمين عنصره البشري. أريد أن أدلي بدلوي في هذا الأمر من خلال بعض الملاحظات التي سأخصصها لفئة معينة من ساكنة بلدنا، وهذا ليس من باب الفئوية في بعدها القدحي ووفق منظورها المحدود ولكن نظرا للخصوصية التي فرضتها إحدى أوجه الأعطاب التنموية بامتياز على هذا المجال الترابي من وطننا العزيز، والتي سأجعلها ذات بعد ميداني أكثر منه تدخل أكاديمي علمي يلامس المشروع التنموي الجديد، مرتكزاته، أهدافه ومخرجاته …وغيرها من المقومات التي تحكم بلورته.
وعليه، فمن وجهة نظرنا أن لحظة التشخيص والتوقع يجب أن تقود إلى الوقاية، وإلى إنتاج أمصال اقتصادية، اجتماعية، سياسية، فكرية وثقافية. إنتاج أمصال عقليات قادرة على الحد من آفات الأعطاب التنموية وإيقاف شرورها.
فالرهان اليوم، بل التحدي التاريخي الذي جادت به هذه الظرفية ليس الركون لاعتقاد أن الوضع ومعه المستقبل بالغ التعقيد وعديم اليقين، وبالتالي الاكتفاء بالحاضر ونترك أنفسنا وأشرعة سفن سياساتنا العمومية للرياح والتيارات تأخذنا حيث تشاء. فمن السهل جدا العودة إلى الوراء وانتظار ظهور الصعوبات واستفحالها لمحاولة تقديم حلول لها. والتي لن تكون سوى مسكنات وردود أفعال في سياق مرتجل، أي ما يعرف بمنطق “الأجل القصير”، حيث طغيان الأمور الطارئة والملحة، وغياب للزمن في بعده التنموي المبني على التوقع والتخطيط، بل فقط وضع يلغي من خلاله الحاضر للماضي،ويظل أعمى عن المستقبل. وهو ما طبع ولازال يطبع بعض قطاعاتنا التنموية وسياساتنا العمومية التي عبر أبسط نبش للذاكرة، تقدم لنا وبخطوط عريضة وضمن جوانب ومجالات متعددة عجز أسلافنا خلال القرن العشرين وما قبله، عن مواجهة الأعطاب المتصاعدة للتنمية. فديكتاتورية “الوقت الفوري” وغياب الفكر والرؤية، وعدم الاستعداد المزمن وبحماس عقيم في ظل هيمنة للمكسب القصير المدى للزمن التنموي، لا تترك للأفراد والمجتمعات بمؤسساته وتنظيماته خيارا سوى الاستسلام لطغيان اللحظة، أو خيار التكيف مع التطورات لكن بعد فوات الأوان غالبا.
ولكي لا نكون تحت رحمة الظروف في مستقبل يزداد تعقيدا وغير يقيني، ورغبة في استعادة السيطرة على مصيرنا، يجب أن نستعيد الزمن الطويل، يجب أن نمد أنظارنا إلى الأمام، إلى أبعد حد ممكن. يجب أن نتوقع الاتجاهات،وأن نكتشف الحاضر عن عمق باعتباره الحضانات التي ينشأ فيهل المستقبل، وتفرخ من خلاله معالمه وآفاقه وانتظاراته. ففي هذا الباب، وبإدراكنا وإلمامنا بأن هناك نقص في العمل والفعل التنموي، فأيضا يجب أن ندرك بالموازاة أن هناك نقص في الرؤية وفي الشجاعة السياسية للحكومات المتعاقبة. وهو ما يجعلنا الآن مجبرين على طرح المشكلات على أنفسنا مهما كانت ضخامتها وقساوتها، حتى لا نكون غدا وبعد غد مطالبين بمحاسبة ذواتنا كقوى حية داخل هذا المجتمع، وكمسؤولي ومدبري الشأن العام به، على القرارات التي لم تتخذ أو تلك المتخذة بعد فوات الأوان. كما أننا لم نعد قادرين على تقديم المزيد من الاعتذارات داخل حيز الأعطاب التنموية التي عرفتها وتعرفها بلادنا. سيما وأننا أمام لحظة تاريخية بمثابة ساعة الحقيقة، لتفادي عبئا على مجريات المستقبل. وهذه اللحظة التاريخية تفرض علينا طرح سؤال أني وراهني على ضميرنا الجمعي مفاده، هل من الممكن أن نسمح لأنفسنا بأن تلومنا أبناءنا والأجيال القادمة على أننا كنا ربابنة سيئين، وبدلا من أن نكون في مستوى تحديات الزمن واللحظة التاريخية ذات الحمولة التنموية، قذفنا بسفينة أمتنا إلى صخور دلت عليها الخرائط البحرية، وكشفت عنها أنظمة الملاحة بوضوح؟؟.
لقد قال ثيوسيديد THUCYDIDE منذ زمن بعيد بأن ” القائد السياسي لا يجب فقط أن يكون له يدان نظيفتان، بل يجب أن تكون له أيضا عينان صافيتان”. وهو الأمر الذي يجب أن ينطبق اليوم على المسؤول والمدبر الإداري. فنحن نعيش لحظة أزمة نموذج تنموي، وفي لحظات الأزمة “يغدو الخيال أهم من المعرفة” كما قال ألبيرت انشتاين. إنه الخيال في التوقع وبعد النظر في الأبحاث والتقديرات المستقبلية التي يجب ترجمتها إلى فعل واحتياط ووقاية.
وفي هذا السياق أريد أن أتحدث عن حياة والمعيش اليومي لشريحة مهمة من سكان بعض أقاليم جهة الشمال، سيما ساكنة أقاليم شفشاون، وزان، العرائش، تطوان والحسيمة، والتي تمتهن زراعة نبتة الكيف، لظروف أملتها عدة عوامل تاريخية ومعطيات جغرافية في ظهورها وانتشارها، لا يسمح المجال للتفصيل فيها. وإذ نثمن انفتاح اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي على الفعاليات السياسية والاجتماعية وهيئات المجتمع المدني وبعض الهيئات الدستورية والمؤسسات العمومية واقعيا، وكذلك في العالم الافتراضي، وتبنيها للمقاربة التشاركية لما لها من أهمية في بلورة وتنزيل نموذج تنموي يعكس نبض المجتمع ومختلف قواه الحية كما دعا لذلك جلالة الملك . ويتضح أن واقع الحال فرض على أعضاء اللجنة النزول إلى الميدان في بعض جهات وأقاليم المملكة للإنصات عن قرب إلى مطالب الساكنة وتطلعاتها وانتظاراتها ، وأيضا لمعاينة الحقيقة عن قرب وملامسة كل جوانبها في مهدها بعيدا عن ما يحكى أو ما تشير إليه بعض التقارير والدراسات الرسمية أو الصحفية وغيرها. إن مثل هذا النهج فعلا سيجعل اللجنة تقف على حقيقة مغايرة ، تتجاوز لغة الأرقام والإحصائيات وحتى قد تكشف الكثير من القصور في رؤى ونظريات ومذكرات العديد من الفعاليات السياسية والحزبية وغيرها.
في هذا الإتجاه، نرجو من اللجنة أن تضع ببرنامجها حيزا مهما للزيارات الميدانية لكل مناطق العالم القروي والأرياف المعزولة بالمغرب العميق، لما تتيحه هذه الزيارات لأكبر قدر من إمكانية رصد نبض الساكنة، والوقوف على حجم معاناتها وأزماتها السوسيو اقتصادية والإختلالات البنيوية والخصاص المهول على مستوى البنيات التحتية من طرق ، وتجهيزات المرافق العمومية الأساسية من مستوصفات صحية ، مدارس ونقل… دون الحديث عن بنيات ووحدات القرب الخاصة بالشباب من ملاعب القرب ودور الشباب وغيرها…..، وبالتالي توجيه البوصلة نحو عمق الإنتظارات الجوهرية لهاته الشريحة السكانية التي تتلخص معاناة آلاف منهم في الشعور الدائم بالخوف بسبب الاعتقال أو البحث عنهم لمخالفتهم القانون باستمرار والتي هي مخالفة مستمرة في الزمان والمكان بحكم زراعة نبتة الكيف التي جعلت من هذه الفىة من الساكنة تعيش وضع سجناء مع وقف التنفيذ. وإذا كانت القاعدة القانونية أن المتهم بريء حتى تثبث إدانته، فالوضع بالنسبة لهذه الفئة من الساكنة أن الجميع متهم حتى تثبث براءته. وهو ما جعل العنصر البشري في هذه المنطقة خارج الزمن التنموي وخارج العمل المؤسساتي بكل أشكاله، وفي تنافر وخوف دائم من الإدارة، بل الى حد الصراع بينه وبين السلطة المحلية ، الدرك الملكي وادارة المياه والغابات، ثلاثي الرعب بالنسبة له. فالعائلات تعيش خوفا متواصلا من اعتقال أحد أفرادها، إلى حد بات اجتماع كل الأفراد على مائدة واحدة حلما صعب تحقيقه. فالساكنة بهذه المنطقة تعيش مآسي اجتماعية ونفسية كبيرة كونها ملاحقة، ويرفض الكثير من المزارعين الظهور في الأماكن
العمومية خشية الاعتقال. لدرجة أصبح اقليم شفشاون يعرف نسبة مرتفعة جدا على المستوى الوطني في ظاهرة الانتحار. والتي أضحت الوصفة المفضلة والوجبة الخلاص لاحتساء المرارة بطعم مأساوي .
فواقع مزارعي نبتة الكيف يغني عن السؤال والقضية تحتاج حلولا جذرية وواقعية وملموسة بعيدا عن وصف الثراء المزيف المشاع بهتانا عن المنطقة عموما. ففعلا اذا كانت زراعة الكيف قد أغنت فئة المهربين الذين يتوزعون بين القليل من أبناء المنطقة، والغالبية من الوافدين من خارجها، إلا أنها من جهة ثانية ساهمت في عزلة وتهميش المنطقة وتشويه سمعة أبنائها. فشباب المنطقة يعيشون بين مطرقة السمعة السيئة التي تطال أبناء مزارعي نبتة الكيف من طرف المجتمع، وسندان افتقار المنطقة لأبسط البنيات التحتية من طرق ومستشفيات ومرافق عمومية ومؤسسات ثقافية، علاوة على غياب بدائل اقتصادية حقيقية تسهم في الاستغناء عن زراعة هذه النبتة.
فالظرفية الراهنة في نظرنا سانحة من أجل الوقوف على تشخيص جريء والإلمام بكل شجاعة بالمشاكل الحقيقية للوضع ونتائجه ، من أجل بلورة بدائل اقتصادية واجتماعية وفق مقاربة شمولية بعيدة عن المقترب الأمني المحض، تحكمها آليات وبرامج العمل التشاركي. وتحقيق ذلك رهين في جزء كبير منه بنزول لجنة النموذج التنموي لهذه المناطق من أجل الوقوف عن قرب وميدانيا على أحوال المنطقة، أعطابها وانتظارات ساكنتها، حتى يتسنى القيام بتشخيص دقيق وعميق للوضع، نستطيع من خلاله طرح بدائل اقتصادية واجتماعية قابلة للتحقيق ومتوافق بشأنها لما يخدم المنطقة وساكنتها ومعها الاقتصاد الوطني، بعيدا عن المزايدات السياسية والخرجات الحزبية التي يظل همها الأكبر الانتخابات ودغدغة مشاعر المواطنين بهذه المناطق واللعب على وترهم الحساس، في إطار ما يرتبط بفكرة تقنين نبتة الكيف. وهي الفكرة التي لا أرى فيها الأمل والمستقبل للمنطقة، بقدر ما يجب من وجهة نظرنا تشجيع السياحة الجبلية وخلق الجو الملائم والبيئة المناسبة للاستثمار في هذا القطاع، واستغلال الإمكانيات الطبيعية للمنطقة والاستثمار في العنصر البشري من أجل أن يتصالح كمرتفق مع الإدارة أولا، ثم من أجل تأهيله للانخراط في العمل الجمعوي ومؤسسات المجتمع المدني، وكذلك إذكاء روح العمل التعاوني لديه من خلال تأسيس تعاونيات تخدم منتوجات الإقتصاد المحلي من صناعة تقليدية ومنتوجات فلاحية وغيرها. وعلى الدولة والجماعات الترابية أن تلعب دورا رياديا في مسألة تشجيع ورش السياحة الجبلية بالمنطقة وتسويقها من خلال العديد من الآليات من قبيل: تشجيع الإنتاج التلفزيوني والسينمائي بالمنطقة قصد التعريف بمؤهلاتها الطبيعية، وكذا تنظيم معارض وطنية ودولية تخدم المنطقة وثقافتها وموروثاتها التاريخية . سيما وأن الوضع جد مناسب حاليا في ظل البرنامج المندمج الذي أطلقه جلالة الملك نصره الله والمتعلق بدعم وتمويل المقاولات، والذي في جزء كبير منه يركز على المستثمر / المقاول القروي، ويحمل في طياته جينات ثورة خضراء وعالم قروي منتج قادر على تجاوز ومحو المعالم القدحية في واقع مقولة المغرب العميق.
” فمستقبلنا ليس مكتوب في أي مكان ، إنه بين أيدينا جميعا. “
وختاما، يقول جلالة الملك نصره الله في إحدى خطبه السامية : ” إننا نعرف جيدا أن هناك من يخدم الوطن بكل غيرة وصدق، كما أن هناك من يريد وضع الوطن في خدمة مصالحه. هؤلاء الذين جعلوا من الابتزاز منهجا راسخا، ومن الريع والامتيازات حقا ثابثا، ومن المتاجرة بقضايا الوطن مطية لتحقيق مصالح ذاتية.” انتهى كلام جلالة الملك.
- بقلم محمد أقريقز. دكتور وباحث في القانون العام. مدينة طنجة.