تعتبر الزوايا في المغرب منذ مئات السنين من المؤسسات التي استطاعت لعب أدوار مهمة في الحياة الاجتماعية للمغاربة، فقد باتت على امتداد الأعوام ملجأ روحيا وعلميا للأفراد الذين يعتبرونها مكانا مقدسا، يمارسون فيه طقوسا متعددة تشكل مركزا أساسيا للتصوف الذي يؤدي إلى صفاء الروح وطهرها، فالزوايا مؤسسة دينية وعلمية واجتماعية تبلورت أنشطتها ووظائفها وتجدرت داخل الأمة الإسلامية بصفة عامة. وعلى غرار باقي مناطق المغرب، الذي تؤكد المقولة الشهيرة بأنه بلاد الصلحاء والأولياء وأن أرضه هي “الأرض التي تنبت الصلحاء كما تنبت الكلأ”، وأنه “ليس في بلد إسلامي آخر، ما يعادل المغرب الأقصى في عدد الصلحاء والأولياء”، فإن مدينة وجدة تشهد انتشارا واسعا للزوايا الصوفية، إذ تشكل “العلاقة بين الزاوية والمجتمع” موضوعا هاما لدراسته والبحث فيه بهذا الفضاء الجغرافي، وذلك بوصف مختلف المظاهر التي تميز الزاوية، وخاصة الطقوس التي تقام بها، ناهيك عن الكشف عن مختلف الأدوار التي تلعبها الزوايا في محيط تواجدها، وبالأخص الكشف عن أهمية الدور المساهم في تحقيق الأمن الروحي بالمجتمع.
إن مقاربتنا لهذا الموضوع كانت بالاعتماد على إشكالية عامة تفرعت عنها إشكاليات جزئية تساءلنا من خلالها عن طبيعة العلاقة بين الزاوية والمجتمع الذي تتواجد بمحيطه، وكذا عن مظاهر وطقوس وأسرار الطريقة التي تنتمي إليها كل زاوية، وعن الثابت والمتحول في هذه الزوايا؛ ولذلك لجأنا إلى طرح فرضيات مختلفة نعالج من خلالها الإشكالية وهي فرضيات استشرفنا التحقق منها خلال تواجدنا بالميدان، فافترضنا أن “الذكر” هو السبيل الذي يصبو من خلاله المريد إلى طمأنينة النفس وصفائها وبالتالي إلى تحقيق الأمن الروحي داخل المجتمع الذي يشكل جزءا منه؛ وأن الزاويا تنهج طقوسا متعددة بغاية الوصول إلى مقاصد التصوف في عبادة الله.في بداية الأمر لا بد أن نشير إلى عدد من المصطلحات التي ما زالت ـ لدى العامة المهتمين بموضوع الزوايا ـ ضبابية غير مفهومة خاصة تلك المصطلحات والمفاهيم التي تلتصق التصاقا محكما بالزاوية، فمن المصطلحات التي تسمع بشكل متكرر مصطلح التصوف والبركة والطريقة والوالي والوعدة، وغيرها من المفاهيم التي تصب في هذا العالم وهذا ما ينبغي توضيحه وتعريفه للمتابع حتى يقف على الدقة المرجوة في المصطلح وإبرازه. فمصطلح التصوف شهد اختلافا في تعريفه الاصطلاحي بين الكتاب والباحثين، بل والمتصوفة أنفسهم تباينوا في تعريف هذا المصطلح، فقد عرفه معروف الكرخي بأنه ” هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق”، وعرفه آخر بأنه ” تصفية القلب عن موافقة البرية وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدواعي النفسانية ومنازلة الصفات الربانية والتعلق بعلوم الحقيقة واتباع الرسول في الشريعة”، ويقول الشيخ أحمد زروق رحمه الله : ” التصوف علم قصد لإصلاح القلوب و إفرادها لله تعالى عما سواه “، وقال أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : ” التصوف تدريب النفوس على العبودية و ردها لأحكام الربوبية “.
وأما مصطلح البركة الذي يتردد في محيط بعض الزوايا فإنه يشير إلى النماء والزيادة، وقال الراغب: ” البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء”، ومن علامات التبرك التي تبدو بارزة في عدد من الزوايا وأيضا بعض الأضرحة وضع اليدين على الصدر بعد التمسح بالمكان وأركانه، وعلى المشهد ذاته الذي يرقد تحته (أو لا يرقد) الشيخ الولي، ونظرا لشعور الزائرين و”المريدين” بالتبرك في إطار وجودهم الفيزيقي أو المادي بالمكان، فهم ينفقون وقتا طويلا بجانب الضريح، وهو ما يفرض وجود الولائم القربانية التي يتناولونها، ويقومون بتوزيعها، ذلك الذي يفرض فكرة القداسة والبركة للأشخاص والأماكن التي ترتبط بالأولياء أنفسهم ، فضلا عن سيادة فكرة التمالح ( اكل العيش والملح ) معهم.ومما يتوارد داخل الزوايا من مصلحات مرتبطة هو مصطلح “الطريقة” حيث تتعدد الطرق التي تميز كل زاوية عن الأخرى، فالطريقة لغة هي السيرة، وطريقة الرجل: مذهبه، يقال: “مازال فلان على طريقة واحدة أي على حالة واحدة، وفلان حسن الطريقة والطريقة الحال”، والطريقة الصوفية “تعني أولًا النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول إلى رتبة الشيخ المربي. ويدعي لنفسه ـ بالطبع ـ رتبة صوفية من مراتب الأولياء عند الصوفية كالقطب والغوث والوتد والبدل، ولا بد أن يكون من أهل الكرامات والمكاشفات، ويكون له بالطبع ذكر خاص به، يزعم كل واحد منهم أنه تلقاه من الغيب إما من الله رأسًا، أو نزل منه سبحانه مكتوبًا، أو من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليقظة أو في المنام.
ومن أهم ما تعرف به الزوايا هي مواسمها السنوية أو ما يعرف لدى سكان شرق المغرب بـ “الوعدة”، فالوعدة كلمة مشتقّة من الفعل “وعد” وتعني التعهّد بالشيء والالتزام بالقيام به، والوعدة في المعتقد الشعبي: هي عبارة عن نذور وقرابين في شكل ذبائح أو أحباس من الأشجار المثمرة…، تقدّم في شكل هدايا أو ولائم تقام في أيام زردة الأولياء فتنسب إلى ولي بعينه وتسمّى باسمه وقد دأب البعض على القيام بهذه الممارسة الطّقوسية كعادة توارثوها عن أبائهم وأجدادهم، بينما يقدم البعض الآخر الوعدة، كنذر لتحقيق أمنية معيّنة، كالشّفاء من المرض أو الزواج والإنجاب أو لإحلال الخير والبركة ودرئ المخاطر، وتسهر بعض الزوايا بمدينة وجدة على إرفاق الوعدة بعروض للفروسية والخيل.
إن الزوايا بمدينة وجدة تسهر على تنظيم مواسمها السنوية في مناسبات دينية ووطنية مختلفة، وتسهر على أن تكون لهاته المواسم وظائف متعددة اجتماعية وتربوية وتعليمية، فرحلتنا الميدانية جعلتنا نحط الرحال بأربع زوايا بمدينة وجدة كأنموذج نستعين به لدراسة العلاقة بين الزاوية والمجتمع ، فكانت الزاوية التانوتية القادرية، والزاوية فرع المعينية “زاوية الشريف الحاج بن محمد بلهاشمي الميري الإدريسي”، والزاوية التيجانية “فرع وجدة” والزاوية الخلوفية الدرقاوية، من الزوايا التي اخترناها محطات في مقاربة الموضوع، ومن خلالها تأكد لنا أن الزاوية بمدينة وجدة هي مؤسسة تساهم في نشر قيم التسامح والمحبة داخل المجتمع المغربي، وأنها تسهر على تعميم فكرة التكافل والتضامن، بما ينفع الناس جماعة وأفرادا، وهو ما جعل الزاوية في المخيال الشعبي المغربي مكانا ينبغي التواجد داخله والتوسل بشيخها لتحقيق الصفاء الروحي، والنجاة بالذات من الزلات التي يمكن أن يسقط فيها العبد؛ كما أن الزوايا بوجدة استطاعت أن تجعل لنفسها مكانة بارزة داخل النظام الاجتماعي بمدينة وجدة، فقد تبين أن المجتمع الوجدي (من خلال عينات الدراسة) بات في أمس الحاجة إلى هاته الزوايا، لاعتقاده أن فيها حاجيات يحتاجها في حياته اليومية وأهمها الأمن الروحي. وتجدر الإشارة إلى أن عددا من المريدين بمختلف الزوايا يعتقدون أن النفس البشرية لا تطمئن وتأمن إلى بترديد الأذكار في حضرة شيوخ الزوايا، والنيل من رضاهم، وبركاتهم، والمداومة على زيارة أضرحتهم وولاتهم؛ وبغض النظر عن الأدوار الدينية التي تلعبها الزوايا في تحقيق الوسطية والاعتدال في التعبد لدى المغاربة، فإنها تلعب أدوارا تعليمية تربوية واجتماعية مختلفة عبر نشرها للعلوم واحتضانها للطلبة الذاكرين، وتحقيقها للتسامح بين الشعوب من خلال استقبالها لحاملي كل الديانات برحاب بناياتها.
د عمر محموسة