لاحت في الأفق قبل يومين تسريبات لبعض مواد مسودة مشروع القانون رقم 20-22 المتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة.
وأول ملاحظة يجب الإشارة إليها تتعلق بمبررات هاته التسريبات والغرض منها، سيما وأن البلاد تعيش ظروفا صعبة بسبب وباء كورونا، لذلك فإن القراءات تتعدد والأفكار تختلط عند الكثير، وتطرح التساؤلات حول الجهة المستفيدة من هذا التسريب.
إن المتتبع الرصين يعي جيدا بأن المواد موضوع التسريب تتعلق بمجرد مسودة في صيغتها الأولى، والتي تم الإعتراض عليها داخل الحكومة من قبل عدد من الوزراء-على حد تعبير وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان-، هاته الصيغة أصبحت من الماضي، وأنه حاليا تمت إحالة الصيغة الثانية من المشروع على اللجنة التقنية و اللجنة الوزارية للدراسة والاعتماد.
الشيء الذي يؤكد بأن المشروع لا زال لم يحل على البرلمان بعد.
ما يدفع إلى القول بأن التسريب وقع من داخل المطبخ الحكومي، مما يعطي انطباعا قويا و إشارة واضحة بأن هذا المشروع فاشل حتى وهو لازال يعيشه مخاضه الأول، بمنطق أنه لا يعقل أن نحاسب أشخاصا عاديين على تبادل وسائط التواصل الاجتماعي،والحال أن صانعي القرار لم يستطيعوا الحفاظ على السر الذي يمليه عليهم القسم الوزاري، حتى لا نصير أمام مقولة -حاميها حراميها-.
إضافة إلى ذلك فإن المستفيد الأكبر من التسريب المذكور هم النخب السياسية وقيادات الأحزاب السياسية، اللذين خيبوا الآمال في التعاطي مع جائحة كورونا،بحيث أن موقفهم اتسم بالسلبية والعدمية- إلا قليل منهم-، لذلك جاءت هاته الفرصة ليخرجوا من بوثقتهم ويعبروا بصوت واحد عن رفضهم لهذا المشروع،ويكتسبوا شيئا من المصداقية التي فقدوها.
وبالتالي فإن ما وقع ليس من باب الصدفة أو الخطأ، وإنما يشتم منه رائحة القصد والعمد لأغراض يعلمها أصحابها، وهو ما يتطلب محاسبة من قام بفعلته-في ظل الضرفية المعلومة-،والتي تتطلب توحيد الصفوف ولم الشمل،بدل تمزيق الممزق وتفتيت المفتت.
إن دراسة وتحليل أي مشروع أو قانون – مع ملاحظة اننا نناقش فقط جزءا من مسودة-، تعتمد على مقومات وأسس جوهرية تروم بالأساس الى اعتماد المعيار النصي( الدلالة النصية لمصطلحات وعبارات النص)، ثم الغاية من سن هذا المشروع، وأخيرا الأشغال التمهيدية.
إلا أن واقع الأمر أنه بعد التسريب الذي وقع، والضجة المثارة حوله لا يمكن أن يسعفنا في إعمال جميع المعايير المذكورة، لسبب بسيط وهو أن الكل حاول أن يخلي ساحته ومسؤوليته عن هذا المشروع، والكل تبرأ منه، ولا أحد يريد أن يفصح عن دوافع المشروع وأهدافه وغاياته، سيما أن التكتم كان هو سيد الموقف وما يعكس أمرا بالغ الدلالة وهو أن حتى من يفترض أنه مصدر المشروع لم يجرأ على تبنيه، ويبقى التساؤل مطروحا حول الجهة التي وراء هذا الأخير؟ فليس منطقيا أنه نزل من السماء، إلا إذا كان الأمر يتعلق بكواليس لا يريد أحد الإفصاح عنها.
أنا باعتقادي أن سبب النزول – انطلاقا من المعيار الغائي- قد تكون له علاقة وطيدة بحملة المقاطعة التي خاضها المغاربة -التي انطلقت شرارتها أواخر ابريل سنة 2018- ضد بعض المنتجات، والتي كان منطلقها الرئيس هو وسائط التواصل الاجتماعي- علما أنها كانت ناجحة بامتياز وداع صيتها في العالم بأسره-، لذلك فإن محاكمة شعب بأكمله من أجل موقفه الذي عبر عنه بشكل جماعي، ديموقراطي، عقلاني وحداتي، هو لا شك أن يجعلنا أمام قوانين بخلفيات مسبقة، هدفها الإنتقام من صيحة المجتمع، والحد من الحريات والحقوق المتعارف عليها دوليا.
مشروع قانون 20-22-بصيغته المسربة بطبيعة الحال- اتى بجديد لم يسبق له مثيل خاصة ما نصت عليه المواد 14و15 و18 منه.
ما يلاحظ على هاته المواد أنها جرمت أفعال من قبيل الدعوة إلى مقاطعة بعض المنتوجات أو البضائع أو الخدمات (المادة 14)، أيضا المعاقبة على التحريض على سحب الأموال من مؤسسات الإئتمان(المادة15 )، بالإضافة إلى تجريم التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتوجات والبضائع.
أما بالنسبة للعقوبات فجميع هاته الفصول تفرد عقوبات سالبة للحرية، من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات أو الغرامة التي قد تصل حتى مبلغ 50.000 درهم.
بأستقراء هاته المواد يتم تسجيل ما يلي:
اولا:التنصيص على تجريم أفعال لم تكن مجرمة من قبل، بل إنها تدخل في صميم ما يصطلح عليه بحرية الرأي والفكر والتعبير المكفولة دستوريا.
ثانيا: إقرار عقوبات سالبة للحرية،مع طابع التشديد مقارنة بالأفعال المرتكبة.
ثالثا:التراجع عن المكتسبات التي تضمنتها مدونة الصحافة والنشر،التي أقرت عقوبات مالية فقط وألغت العقوبات الحبسبة.
رابعا:كون الأفعال المجرمة بمقتضى المواد المذكورة لا تمس الدولة بمفهومها الواسع(الملكية،المؤسسات،الهوية)، بقدر ما تتعلق بأشخاص ذاتيين أو اعتباريين، يسمح لهم القانون باللجوء إلى القضاء و المطالبة بتعويضهم عن الأضرار اللاحقة بهم جراء أي مس بمنتوجاتهم وبضائعهم.
لا شك أنه لا يختلف إثنان أن الهدف الأسمى للسلطة – الدولة- هو حماية الشعب برمته، وضمان حرية أفكاره ومعتقداته وآراءه، وليس فقط حماية مصالح فئة قليلة من أصحاب الشركات وأرباب المصانع ومؤسسات الإئتمان، بل إن الدولة ليست وصية على هؤلاء، وأن كل من تضرر منهم من أية إساءة أو تحريض او تغريض، فإن بإمكانه الولوج إلى الجهات القضائية المختصة للمطالبة بحقوقه.
إن مشروع قانون رقم 20-22 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، -بالصيغة المسربة بطبيعة الحال- لا يمكن أن يشكل إلا رجعة حقوقية، ومخالفة صريحة لروح الدستور الضامن للحقوق والحريات خاصة الفصل 25 منه الذي نص في فرقته الأولى على ما يلي:
” حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”.
إضافة إلى ذلك فهو يضرب عرض الحائط المكتسبات المتراكمة في المجال الحقوقي التي حققتها بلادنا، بعد نظال عسير خاضه شرفاء هذا الوطن.
بل إننا لا نجد نظيرا لهذا المشروع في القانون المقارن، خاصة الأنظمة اللاتينية والانجلوساكسونية، التي ترفع التجريم عن كل ما يرتبط بحرية الرأي والتعبير.
إن المتأمل في نص هذا المشروع، لا سيما ما ورد في المواد 14و15 و18 سيلحظ بأن الخطوط العريضة له هو التحيز لصالح فئة قليلة من أصحاب رؤوس الأموال واللوبيات الضاغطة، ضد شعب بأكمله.هذا الأخير الذي يعتبر في نهاية المطاف مستهلكا له حقوق عديدة يضمنها له قانون حماية المستهلك، ومن أهمها عدم قبول أي منتوج او سلعة او خدمة لا تناسب تطلعاته، أو قد يرى أنه تضر بمصالحة سواء الصحية أو المالية، بل من حقه الإعتراض عليها والتبليغ عنها إلى الجهات المختصة.
في خضم جميع النقاشات التي طرحت بخصوص مشروع القانون المذكور يبقى المواطن هو الطرف الضعيف في المعادلة، خاصة وأن بعض المؤسسات تتعامل بعقود الإذعان (بحيث أن المواطن يوقع على سندات لا يعلم حتى محتواها)، بل يتحمل التزامات بشكل اضراري مرغما لا بطلا.
لذلك فإن مشروع قانون رقم 20-22 في حالة ما إذا تم المصادقة عليه وصار قانونا بنفس البنوذ المضمنة فيه، لا شك وأنه سيقسم ظهر المواطن بشكل مباشر،ويجعله تحت رحمة اللوبيات وأصحاب رؤوس الأموال، وهو ما لا يليق بدولة الحقوق والمؤسسات، بل إنه ردة غير مبررة عن التراكمات التي عرفها الحقل الحقوقي، وانتكاسة كبرى للانخراط الإيجابي للمغرب في مسلسل المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، لا سيما منها:
الإعلان العالمي لحقوق الانسان،العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية،العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية.
إن تعبير الشعب المغربي عبر وسائط التواصل الاجتماعي عن سخطه وامتعاضده من المشروع المذكور لأكبر دليل على وعيه وانخراطه الجماعي التلقائي في مسلسل التعبير عن الرأي والفكر المتحرر من أية مزايدات أو حسابات سياسية أو مصلحية.
في الختام تبقى الدعوة مفتوحة لكل الضمائر الحية، سياسين، مثقفين، اكادميين، حقوقيين، مجتمع مدني، للوقوف في وجه كل توجه أو مشروع يضرب الترسانة الحقوقية التي تم اكتسابها.والتي لا يمكن التراجع عنها بشكل مطلق، في الوقت التي ينادي فيه الجميع بتعزيز المناخ الحقوقي في البلاد، بالشكل الذي يتلاءم والمنظومة الحقوقية المتعارف عليها دوليا.
الاستاذ محمد الطاهري : محام و باحث