لا لتهميش دور العقل والفكر

29 ديسمبر 2019
لا لتهميش دور العقل والفكر

يعيش العرب في هذه الحقبة الزّمنيّة مزيجاً من المشاكل والتحدّيات على المستويين الداخلي والإقليمي. ولعلّ أخطر ما في الواقع العربي الرّاهن هو تغليب العصبيات الفئوية على حساب المشترَك وطنياً وعربياً، وتهميش دور العقل والفكر في فهم ما يحدث وما يجب عمله.

فالتّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة يتطلّب الخروج أوّلاً من المأزق الذي يعيشه الإنسان العربي المعاصر في كيفيّة تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع “الآخر”، وفي التلازم المطلوب بين الفكر والحركة.

وهناك قطاعٌ كبيرٌ من العرب لا يجد أهمّية الآن للأمور الفكريّة أو للمؤسّسات المهتمّة بالفكر والثقافة، وهذه الفئة من العرب تجد أنّ الأولويّة الآن هي للأمور الحركيّة والعمليّة ولمتابعة الأخبار السريعة حيث لا يجوز إضاعة الوقت والجهد في قضايا التفكير والتنظير، بينما في المقابل نجد العديد من المفكّرين العرب الذين يكتفون بطرح الفكر ولا يساهمون في بناء المؤسّسات التي تقدر على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذيّة!.

إذن، هي معضلة في الاتّجاهين، فالفكر هو الذي يحدّد الأهداف المرجوّة من أيّ عمل، وهو الذي يصنع وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل. لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عمليّاً مشاكل قائمة وإذا ما بقي أسير الكتب وعقول المفكّرين. فالقيمة الحقيقيّة لأي فكرة تتحصّل من مقدار تعاملها مع الواقع ومشاكله والقدرة على تغييره نحو الأفضل.

وربّما يكون العرب الآن حالة نادرة بين شعوب العالم المعاصر من حيث تشابك القضايا والأحداث، واختلاف الأولويّات والاهتمامات لدى أبناء الأمّة الواحدة. فلم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، وأصبح لكلِّ بلد عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى وجود مشكلة الاحتلال الإسرائيليّ ودور القوى الإقليمية والدولية في صناعة أو توظيف أحداث وصراعات المنطقة.

لكنّ في كلّ هذه القضايا والتحدّيات، هناك حاجة لمجموعة من المفاهيم والضوابط التي ترشد الحركة في معالجة ومواجهة أيٍّ منها. وقد يكون بمقدور الحركات السياسية العربية الناشطة الآن، أن تحقّق خطواتٍ إيجابية أوسع لو وضعت باعتبارها لائحة “التمييز المطلوب” هذه:

أولاً: التمييز مطلوب لدى البعض في حراكهم السياسي والشعبي ما بين تغيير الحكومات وبين تفكيك الكيانات. فالخلط بين النظام والكيان هو خطر على الوطن كلّه.

ثانياً: التمييز بين الطائفة والمذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع يقوم على التعدّدية. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه.

ثالثاً: التمييز بين الاعتزاز بالوطنية المحلّية، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر التكتّلات العالمية الكبرى.

رابعاً: التمييز بين أسلوب المقاومة المشروع ضدّ جيش الاحتلال على الأرض المحتلّة، وبين أساليب العنف الإرهابية التي تستهدف الأبرياء والمدنيين ووحدة المجتمع.

خامساً: التمييز بين الانتماء القدَري للعروبة، وبين تجارب الحركات القومية السياسية. فالعروبة هي انتماء ثقافيّ مشترك بين العرب كلّهم، وهي هويّة حضارية لكلّ أبنائها، في حين أنّ الحركات القومية هي حركات سياسية لها مضامين فكرية وعقائدية تماماً كحال الحركات السياسية الدينية أو غيرها من الحركات العقائدية.

سادساً: التمييز ما بين قدسية الرسالات السماوية، وبين إنسانية الفقهاء ورجال الدين والحركات السياسية التي تحمل أسماء دينية. فلا يجوز تكفير الآخرين لمجرّد اختلافهم مع رأي فقيه أو عالم ديني أو حركة سياسية دينية.

سابعاً: التمييز بين الدين والدولة (وليس فصل الدين عن المجتمع)، وتحديد المرجعية في الأمور الدنيوية القانونية للمؤسّسات الدستورية الإنسانية.

في مقابل هذه اللائحة من “التمييز المطلوب”، فإنّ الحركات الشعبية العربية معنيّة أيضاً بلائحة من “الفصل المرفوض”:

أولاً: عدم الفصل بين الحرّية السياسية والحرّية الاجتماعية، “بين لقمة العيش والبطاقة الانتخابية”.

ثانياً: عدم الفصل بين حرّية الوطن وحرّية المواطن. فالاستبداد الداخلي هو المسؤول عن القابليّة للهيمنة الخارجية، كما لا يجوز أيضاً التفريط بحرّية الوطن وسيادته من أجل تحصيل الحقوق السياسية للمواطنين.

ثالثاً: عدم الفصل بين أهمّية الإصلاح الداخلي في كلّ بلد عربي وبين إصلاح العلاقات العربية/العربية من أجل تكامل الأقطار العربية واتّحادها على أسس دستورية سليمة، ففي ذلك يتحقّق التقدّم العربي الشامل.

رابعاً: عدم الفصل بين الأطروحات النظرية وبين أساليب العمل التطبيقية. فكثير من الحركات السياسية العربية تقول ما لا تفعل، وتُمارس عملياً عكس ما تطرحه نظرياً.

خامساً: عدم الفصل بين المنطلقات والغايات والأساليب. فكثيرون يصفون الواقع ويكتفون بالحديث عنه، ويحصرون فكرهم وأنفسهم في التعامل مع هذا الواقع فقط بدلاً من اعتباره منطلقاً من أجل التغيير وتحقيق مستقبلٍ أفضل..

وكثيرون يتحدّثون عن الغايات بمعزل عن الواقع، ويكتفون بوصف الحلول وكأنّها كلمات سحريّة سوف تتحقّق بمجرّد النطق بها..

وآخرون كثيرون أيضاً استباحوا في أساليبهم ما يتناقض مع الشعارات والغايات التي يطرحونها، فاجتمع لديهم شرف الأهداف مع انتهازية الأساليب!.

وعادةً ما يرتاح عامّة الناس إلى “التقليد” وإلى “السير على خطى السلف الصالح” وإلى تبسيط التصنيفات والخيارات في الأمور كلّها، حتّى في القضايا الدينية. لذلك نرى الآن ازدهاراً كبيراً في معظم البلاد العربية لظاهرة “الفتاوى” والركون إلى ما يقوله “المفتون” بدلاً من تشغيل العقل في فهم النصوص. وحينما تتحرّر العقول العربية من قيود تراث الماضي، وتفرز بين ما فيه من “غثٍّ وسمين”، وعندما يتمّ تفعيل هذه العقول بحثاً عن مستقبلٍ أفضل، ستنهض من جديد أوطان العرب وشعوبها.

لقد حاولت كلّ التيارات السياسية والفكرية التعامل، بطريقة مشتركة أو مجزّأة، مع التحدّيات والمشاكل التي تواجه الأمّة العربية، لكن بقيت المشاكل والتحدّيات رغم تعثّر أو فشل النظريات الفكرية والحركات السياسية.

وقد مضى نصف قرنٍ من الزمن على محاولات تفكيك هموم الأمَّة العربية وتفكيك شعوبها من أجل تفكيك كياناتها ونزع هُويّتها الثقافية العربية واستبدالها بهُويّات أخرى.. لذلك، فإنّ التمييز الحاصل بين خصائص القضايا العربية المثارة الآن، ومسبّباتها وتداعياتها، لا ينبغي أن يكون فصلاً بين هموم الأمَّة والآمال المشتركة بين شعوبها في حياةٍ أفضل.

ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل بين الناس، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأراضي المحتلّة .. وهي كلّها حالات تعيش معظمها أوطانٌ عربية مختلفة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. فرفض الحكومات والنظم الشمولية يقتضي الآن عربياً أفكاراً وحلولاً شمولية.

الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي. وبتوفّر هذا المشروع، والمؤسّسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معاً. فالمشكلة ليست بتجارب النظم “الشمولية” فقط، وإنّما هي أيضاً بالأفكار والتجارب “الاجتزائية” التي تُجزِّئ الحلول المنشودة لأمَّةٍ جزّأها منذ قرنٍ من الزمن المستعمر الأجنبي، ويحاول ورثته الآن تجزئة المجزّأ !

د صبحي غندور

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

باستمراركم في تصفح هذا الموقع، نعتبر أنكم موافقون على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" أو التقنيات الأخرى المماثلة لها والتي تتيح قياس نسب المتابعة وتقترح عليكم خاصيات تشغيل ذات صلة بمواقع التواصل الاجتماعي أو محتويات أخرى أو إعلانات قائمة على خياراتكم الشخصية

موافق
WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com