تحيل التنمية في مفهومها الاستراتيجي إلى مجمل التحولات التي تطال المجتمع في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية بالشكل الذي يوفّر الشروط اللازمة لحياة أفضل، وبما يحقّق التطور والرفاه للأفراد في جوّ من الكرامة وعدم التمييز.
لا تستقيم الممارسات الديمقراطية، ولا التنمية في أبعادها المستدامة، إلا باحترام وحماية حقوق الإنسان؛ فالمقاربة الحقوقية هي مدخل أساسي لجعل التنمية في خدمة الإنسان.
يستأثر المكوّن البشري بأهمية قصوى في تحقيق التنمية باعتباره فاعلا ومستهدفا بنتائجها؛ فالتنمية الحقيقة هي تنمية بالإنسان وللإنسان. كما أن التدبير العصري يقوم على استثمار العنصر البشري وتوظيف المجال والتكنولوجيا الحديثة لخلق الثّروة، وتروم التّنمية في صورتها المستدامة و”المحوكمة” إلى تحقيق الحاجيات الراهنة دون المساس باحتياجات الأجيال المقبلة، بما يعني ذلك من استحضار لمتطلبات الأمن البيئي.
يدعم الجيل الجديد لحقوق الإنسان الحقّ في التنمية إلى جانب حقوق عديدة من قبيل الحق في السلام، والحق في بيئة سليمة، والحق في التمكين والولوج للمعلومات، وهو ما رسّخته الكثير من التشريعات الداخلية والمواثيق الدولية.
ففي عام 1986 تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان الحقّ في التنمية واعتبرت فيه أن الإنسان هو موضوعها الرئيسي وأن جميع البشر يتحمّلون مسؤولية في هذا الصدد، فرديا وجماعيا. كما أكدت فيه أن تحقّق هذا الرهان لا يتوقف على جهود الدول فقط، بقدر ما يقتضي قدرا من التنسيق والتعاون في عالم تنامت فيه المخاطر والأزمات (بيئية واجتماعية واقتصادية…) واتسعت فيه دائرة الفجوات بين الدول في هذا الصدد.
لا تتحقّق التنمية بمفهومها الشامل إلا في فضاء قوامه الحرّية واحترام الحقوق وحفظ الكرامة؛ فالإنسان كما رأينا هو محور هذه التنمية التي لا تتوقف على تلبية حاجة بعينها بقدر ما ترتبط بمقاربات شمولية تحيل إلى عناصر مختلفة ومتكاملة في الآن نفسه.
وتقتضي المقاربة الحقوقية للتنمية استحضار المعايير المتصلة بحقوق الإنسان (الكونية والإنسانية وعدم التمييز والشمولية وعدم القابلية للتجزئة) في السياسات التنموية، وتوفير مكوناتها الأساسية من خدمات تعليمية وصحية وعدالة ودخل كاف، وبلورة سياسات تنموية منفتحة على المواطن، والنظر إليها كحق وليس منّة، مع إشراك المواطن في اقتراح ومواكبة ومراقبة المشاريع التنموية.
تستمد المقاربة الحقوقية للتنمية أساسها من مجموعة من المواثيق والاتفاقيات الدولية؛ فهناك إشارات واضحة ترصد العلاقة بين التنمية وحقوق الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية حقوق الطفل، والاتفاقية الدولية لمنع جميع أشكال التّمييز ضد المرأة.
وهناك العديد من المؤشرات التي تعكس العلاقات القائمة بين التنمية وحقوق الإنسان؛ يمكن إجمالها في الحدّ من الفوارق الاجتماعية والفقر، وتمكين الشباب والمرأة وبناء قدراتهما، وتطوير البنيات التحتية، وإصلاح التعليم وتطوير منظومته، والحدّ من الجريمة، وتوفير الشغل، وضمان الولوج إلى المعلومات والحقّ في التكنولوجيا الحديثة، واستحضار الأشخاص في وضعية إعاقة في السياسات العمومية والتشريعات.
لا تخلو الجهود الرامية إلى المزاوجة بين التنمية وحقوق الإنسان من تحدّيات وإشكالات يعكسها غياب أو ضعف الإمكانيات، وتفشّي الفساد بكل مظاهره وأشكاله، وانتشار اقتصاد الريع، وهيمنة العقليات المنغلقة، وعدم حدوث تجدّد النخب المختلفة في عدد من القطاعات، ووجود خلل على مستوى مواكبة التشريعات للتحولات الاجتماعية والاقتصادية، ثم الإغراق والمبالغة في الاستدانة الخارجية، واعتماد سياسات عمومية مركزية وغير منفتحة، وإهمال المقاربة التشاركية المنفتحة على إسهامات فعاليات المجتمع المدني، والمقاولات، والإعلام، والمؤسسات الجامعية.
وخلاصة الأمر أن التدبير العمومي في عالم اليوم ينبغي أن يتأسّس على نهج سياسات شفّافة ترتكز على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتوازن بين تحقيق التّنمية وحماية حقوق الإنسان، كسبيل لدعم الرفاه والاستقرار والأمن بمضامينه الواسعة والشمولية، وهو أمر يتطلب تجاوز المقاربات “الخيرية” في هذا الشأن، ووجود نخب في مستوى الانتظارات والإشكالات المطروحة، ومواكبة التشريعات والاتفاقيات والمتغيرات الدولية المرتبطة بهذا الخصوص، واستحضار البعد البيئي في السياسات العمومية، ووضع الإنسان/المواطن في صلب هذه السياسات، والانفتاح على الهيئات والمراكز المعنية بقضايا حقوق الإنسان عند صياغة السياسات والبرامج. كما يتطلب الأمر وجود إعلام مواكب ومسؤول يدعم ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان ويرافع بشأنها.
د ادريس لكريني