د. فؤاد بوعلي
صدمة هي الحقيقة، والأصعب فيها أن تبني أحلامك ومشاريعك على أوهام. إذ لم تكن استفاقة الصحفية بشارلي إيبدو زينب الغزوي، التي كانت تقدم في الإعلام الفرنسي ــ الذي فُتح أمامها على مصراعيه ــ باعتبارها صوت التنوير داخل دهاليز الظلام العربي ــ الإسلامي، وفي الإعلام العربي باعتبارها ثائرة فرنسية على قيود الحرية والتعبير في وطنها الأصل، فريدة في مسار اكتشاف واقع الغرب الحقيقي أو عرضه على مرآة مبادئه التبشيرية.
وهو واقع وهمي صنعته الآلة الدعائية أكثر مما بنته الحقائق العلمية. فالأحداث المتتالية تثبت أمام القارئ المتعمق، وليس العرضي، أن المبادئ الحقيقية للثورة الفرنسية قد رسمت على المقاصل والمشانق، وأن العلمنة الفرنسية التي بُشر بها العالَم قد بنيت على رفات الأفارقة وجماجم الشعوب العربية، وأن أدبيات الفرنكفونية “التنويرية” مليئة بصور الحرب على الإسلام دين الشعوب المحتلَة، وبنماذج تمجيد الاستعمار والتنظير له.
فمن فيكتور هوجو الذي رأى أن لا وجود لإفريقيا دون الإنسان الأبيض، وفولتير الذي رأى هذا الأخير أسمى من الأسود، وديريدا الذي نفى عن العالم خارج الغرب كل إبداع فلسفي، ومونتسكيو الذي اعتبر الاستبداد صفة ملازمة للدين الإسلامي، وصولا إلى باسكال الذي ينتقد الإسلام ويحط منه. واللائحة طويلة. هو مسار من الحقائق التي طمرت في سرداب أوهام الحداثة، لذا أُجهِز على دراسات ما بعد الكولونيالية في الجامعة الفرنسية وحوصر الباحثون في حقيقة الاستعمار وتمثلاته.
فصدمة الصحفية، أو دهشتها، تثبت أن النخبة الفرنكفونية التي طالما مجدت الأنوار واعتبرت ما يحدث تراجعا عن مسار من الحرية، لم تأخذ معانيها ومفاهيمها من المصادر المرجعية لها بل من الخطابات الدعائية والتبشيرية بالنموذج الكوني الفريد والتعددية اللغوية والحرية المطلقة التي تردد في كل محفل.
وهي شعارات تسربت من خلالها إلى النخب المتنفِذة التي غدت رجع صدى لسياسات فرنسا، من أجل التحكم في البوصلة الهوياتية للشعوب الخاضعة لنفوذها.
كتب عبده ضيوف في جريدة لوموند الفرنسية حين كان يترأس المنظمة الفرنكفونية، مستغربا التجاهل الفرنسي للفرنكفونية: ” ما زلت غير قادر على أن أشرح لنفسي، ولا أن أشرح للناشطين الفرنكوفونيين الذين يعيشون في مناطق أخرى، عدم اهتمام الفرنسيين بالفرنكوفونية”. فاللغة التي تمجد في دواليب القرار الفرنكفوني وتصور على أنها لغة عالمية لتعدد الناطقين بها، وفق إحصائيات وهمية (فمثلا مصر اعتبرت في التقارير دولة ناطقة باللغة الفرنسية في حين أن 3% فقط من سكانها يتحدثونها) أدبر عنها في عقر دارها، أي في فرنسا التي غدت “مستعمَرَة باللغة الإنجليزية” في كل المجالات؛ حسب أحد الصحفيين الفرنسيين.
وما لم يستوعبه السيد ضيوف وغيره كثير من مريدي المعبد أن الفرنكفونية لم تصنع للفرنسيين بل لتوجيه عقول وحيوات الشعوب المهيمن عليها وصنع الهويات البديلة في دول الهيمنة، وليست أداة لترسيخ التعددية كما يزعم ويسوق في أدبياتها. والواسطة في ذلك هي النخبة.
اعتادت وسائل التواصل الاجتماعي على تداول تصريح قديم /جديد لسفيرة المغرب في باريس، وهي تقدم نفسها للإعلام الفرنسي تتحدث فيه عن أصول المغاربة، قافزة على كل مرجعيات المشترك الوطني والجماعي، وعلى التعددية التي زخرت بها الذات المغربية طيلة وجودها الجماعي.
والبادي أن النخبة الفرنكفونية اعتادت تقديم أوراق اعتمادها لدواليب القرار الفرنسي، قبل تقديمها لسلطات بلادها.
والجميع يتذكر رئيس لجنة النموذج التنموي وهو يقدم مشروعه لسفيرة باريس قبل مسؤولي وطنه، وياللصدفة! فقد غدا بعدها وزيرا للتعليم، وعضوا في أكاديمية المملكة، ورئيسا لمندوبية التخطيط، والبقية آتية. والواقع أن تصريح السيدة سيطايل ينبئ عن حقائق بدأت تعلن عن نفسها في الصراع الهوياتي داخل المغرب من بينها الدور الفرنسي في “صناعة” الهوية المغربية.
فالبحث في الأصول وتقييدها بعنصر هوياتي واحد، كالقول بأن كل من سكن المغرب فهو أمازيغي، أو الزعم بأحادية الانتماء الهوياتي للمغاربة، أو التمييز على أساس العرق، أو خلق سلمية هوياتية ولسانية، ليس بحثا قديما داخل الجماعة الوطنية، بل هو جزء من المشروع الكولونيالي الذي بنته فرنسا وأعلنت عنه في وثائقها من خلال مذكرة ليوطي، و”لجنة إفريقيا” التي أكدت على حماية البربر من التعريب.
وما نجتره اليوم من نقاشات، من خلال أصوات فنية أو ثقافية، غير متخصصة، ليس إلا استكمالا لفصول هذه السياسة الكولونيالية، في عز تحكم أبناء فرنسا وسيطرتهم على دواليب القرار السياسي والاقتصادي والثقافي.
والأكيد أن العملية برمتها تتعلق بصناعة هوية جديدة للمغاربة فشلت إبان المقاومة الوطنية التي وعت بأبعاد الاستراتيجية الكولونيالية، لكنها الآن بعد توالي تساقط متاريس الممانعة(الأسرة، المسجد، المدرسة…) بدأت مرحلة بناء هوية مغربية جديدة من خلال النبش في الأساطير القديمة، واستنطاق الحجارة، وعناصر المزايلة الشكلية من أجل إثبات هوية “حدودية” تحت مسمى “تمغربيت” تستغل فيه كل الإشارات واللطائف التاريخية والجغرافية لشرعنتها، داخل متاريس الدولة القطرية التي خلقها الاستعمار الفرنسي، ومنحها دورا وظيفيا ــــ سياسيا من خلال اتباع سياسات الهوية التي تركز على الفرق الهوياتي بدل الفرق الاجتماعي “وبدلا من الحقوق الفردية وعملية التمثيل الديمقراطي تمنح سياسات الهوية تمثيلا للهوية في الهيئات المختلفة بدلا من تمثيل المواطنين وينقسم بموجبها الناس إلى انتماءات وعصبيات بدل الانقسام على مواقف وبرامج” كما قال أحد المفكرين.
وفي ظل الصراع المغربي، أو المغاربي، حول وهم الأصول وانشغال وسائل التأثير المختلفة بسلمية اللغات الوطنية، تكتسح لغة موليير الفضاءات المختلفة، وتتمكن من دواليب الثقافة والتعليم المختلفة. فمسلسل الفَرْنَسة مستمر على أشده في مختلف الأسلاك التعليمية بعد إبعاد اللغة العربية، وتحجيم اللغات الأجنبية الأخرى.
فقد خرج تقرير حديث ليكشف عن الواقع المتواضع للغة الإنجليزية في المغرب، بعيدا عن الأوهام التي تسوق إعلاميا بالتوجه نحو الإنجليزية، حيث صُنف في المرتبة 76 عالمياً من أصل 113 دولة شملها التقرير، مما يضعه في خانة الدول ذات المستوى المنخفض في إتقان اللغة الأولى عالميا. مما يعني أن الاهتمام باللغات الأخرى ليس إلا ذرا للرماد في العيون من أجل تحقيق الفرنسة الشاملة بكل أطرها القيمية والمرجعية.
حتى وصل الأمر بالمجلس الأعلى للتعليم إلى اعتماد هيئة فرنسية لتقويم نظام التعليم المدرسي المغربي، مما سيضع كل وثائق المدرسة المغربية بين يدي الفرنسيين.
ولم لا وجل المسؤولين الكبار يفتخرون بجنسياتهم الفرنسية، ويتواصلون في الاجتماعات الرسمية بلغة موليير، ولا يخفون ولاءهم لأولياء نعمتهم في الشانزيليزيه.
بل يمكن التأكيد أنه لم تعرف الفرنسية انتشارا في المغرب، منذ الإعلان عن الاستقلال، كما تعرفه الآن، من خلال تهميش اللغتين الوطنيتين والانتصار للغة موليير بل وفرضها في الاجتماعات الرسمية والمراسلات، حتى وصلنا إلى أن تنشيط الندوات والورشات التي يكون فيها المغرب، ضيف شرف أو عارضا رئيسيا، بالفرنسية، كما هو الشأن بالنسبة لمؤتمر المناخ كوب 28، الذي احتضنته دولة الامارات العربية المتحدة. الأمر نفسه يصدق على المجال الثقافي.
فقد سبق للعديد من الفنانين، مثل محمد مفتاح، التنبيه إلى السيطرة الفرنسية على دواليب الإنتاج الفني في الوطن من خلال تشجيع أسماء معينة تمتهن الابتذال والتفاهة، وتمويلها من خلال صناديق الدعم المختلفة، تدافع عن الشذوذ الفكري والأخلاقي، وتخاطب الغرائز الجنسية بدل تقديم صور لهوية المجتمع وحضارته ومساهمته في الإنسانية. وهي الأصوات نفسها التي تمثل المغرب على الدوام في مهرجانات دولية وإقليمية.
الأمر نفسه ينسحب على الكتابات الأدبية للمغاربة بلغة موليير التي تعتبر كتابات تحت الطلب أهلت أصحابها، الذي فشلوا في ولوج المنتديات الفرنسية أن يتسيدوا المؤسسات الثقافية والأكاديمية الوطنية ويتحكموا في اختيار أعضائها.
كل هذه الأمثلة تثبت أننا أمام صياغة، عن وعي أو بدون وعي، لهوية “وهمية” تجد أصولها المرجعية في الخطاب الكولونيالي الفرنسي. وأي تحرر أو تجاوز لهذا الخطاب لا يتم إلا من خلال تجاوز سياسة القهر الثقافي التي تمارس باسم الفرنسية وتجعلها مدخلا لفرض نماذج سياسية وقيمية مناقضة.
والنقاشات التي تجري في بعض المنتديات ووسائل التواصل المختلفة، والتي تريد إعادة كتابة التاريخ المغربي داخل حدوده السياسية القطرية، وشرعنة هوية مغربية خاصة، بعيدة عن العمق العربي الإسلامي، لا تضيف شيئا إلا تنزيل وصايا لويس ماسينيون، مستشار جورج بيكو، صاحب اتفاق سايكس- بيكو، التي تتنزل في مثل هذه الكتابات واحدة تلو الأخرى: توحيد الأديان، وإبعاد العربية، والدفاع عن التلهيج، والانتصار للأعراق والهويات المغلقة… هي صناعة لهوية بديلة ترتكز على الهجوم الدائم على مقومات الخصوصية الوطنية واستعادة الأصل الاستعماري.