يخلق جان لوك غودار المفاجأة من خلال فيلمه ”وداعا للغة”، فيلم لم يقفز خارج زمن مخرجه ومسيرته بل بقي وفيا لأسلوبه السينمائي، مخلصا لتجربته الإبداعية، فكما يعرف الجميع ان غودار من رواد الموجة الجديدة بفرنسا، وهي حركة سينمائية شبابية ظهرت أواخر الخمسينات وبالضبط سنة 1959، ولمن لا يعرف هذه الحركة فهي حركة سينمائية ثورية قامت بالتمرد على المفاهيم السينمائية الأولى، غيرت مضمونها وكسرت قيودها التقليدية لتتبنى أساليب جديدة بعيدة كل البعد عما كانت تعرفه الشاشة الكبيرة في ذلك الوقت، تماهت مع الظروف القاسية التي كانت تعيشها فرنسا ما بعد الحرب، وحاولت تأسيس إطار جديد يؤطرها بعيدا عن الميزانيات الكبيرة والتقنيات الضخمة المكلفة التي كانت تعتمدها الصناعة السينمائية، الحركة خلقت لنفسها معايير وقواعد خاصة بها استحسنها المتلقي بل أدهشته لتصبح اكثر شعبية ومتابعة بين شباب تلك المرحلة.
انطلقت مسيرة هذه الحركة من النقد، حيث تحول العديد من النقاد السينمائيين الفرنسيين الى مخرجين، وخصوصا أولئك الرواد الذين ارتبطوا بمجلة ”دفاتر السينما” العريقة أمثال جان لوك غودار، وفرانسوا تروفو، وكلود شابرول، وأندريه بازان، وإريك رومير…تخلصوا من نظرياتهم وحملوا كاميراتهم الخفيفة وانطلقوا الى الفضاءات الطبيعية الشاسعة بعيدا عن الاستوديوهات المغلقة، خلقوا بفضل توجهاتهم الجديدة آليات عمل مختلفة، تخص التقنيات والاساليب، من تمثيل وتصوير ومونتاج وانتاج واخراج… الخ وهكذا تكونت مفاهيم اخرى للسينما، و أسست مدرسة جديدة انضافت الى المدارس الاوربية الاخرى، تلك التي أثرت في تاريخ السينما العالمية بقواعدها وتنوع ثقافاتها كالمدرسة التعبيرية الألمانية، والمدرسة الواقعية الإيطالية، والواقعية الشعرية الفرنسية، والسينما الثورية السوفيتية، والواقعية الاجتماعية البريطانية…
جان لوك غودار مازال ينهل أساسياته ومبادئه من هذه الحركة رغم أفول إشعاعها خصوصا بين الجمهور العادي، وهذا ما نلمسه في فيلمه ”وداعا للغة”، الذي مارس من خلاله شغبه التجريبي وعشقه الابداعي، مجموعة من المشاهد المتناقضة أثثت هذا الفيلم، مشاهد لم تؤخذ لإثارة المتلقي والترفيه عنه، بقدرما استعملت واستغلت لخلق القلق داخله، وتحريك فكره وتنبيهه الى المحتوى بعيدا عن الصورة (عبارات فلسفية، وأدبية، ومسرحية… كلب متسكع، موسيقى كلاسيكية، سفينة مبحرة، هدوء، صراخ، شجار، دم، خلفيات سوداء قاتمة، كتب، ثلج، ربيع، اشخاص بلباس وبدونه، أصوات خلفية… ) كلها عناصر اعتمد عليها الفيلم لتمرير رسالة معينة، بعيدا عن سيرورة المشاهد المكونة للسرد الحكائي المتعارف عليه سينمائيا.
يحذرنا غودار في بداية الفيلم بعبارة ”جميع أولئك الذين ينقصهم الخيال يلجؤون الى الواقع” ثم بكلمة ”وداعا” باللون الاحمر، اما مشاهد الفيلم الاولى فإنها تبتدئ بأصوات القنابل والرصاص ولقطات من الحرب، يتبعها مشهد بالابيض والأسود، مشهد سعادة وفرح للممثلة جون أرتور Jean Arthur من فيلم انتج سنة 1939 وهو ”الملائكة فقط لها أجنحة Only Angels Have Wings” لهوارد هوكس Howard Hawks ، لتنتهي بلقطات للكلب روكسي، هذا الأخير الذي يظهر في جل المشاهد اللاحقة، بل يختتم به الفيلم ايضا، الكلب روكسي ليس حيوانا عاديا فقط بل هو شخصية رئيسية في الفيلم، و من خلاله نقل الينا المخرج الكثير من الرسائل والأفكار، بل وظفه كشعار للطبيعة، فهو الوحيد الذي مازال يمثلها -حسب الفيلم- لانه لم يفقد بصيرته جراء الوعي كالانسان، و لأنه مازال عاريا، ففي المقاطع الخاصة بالطبيعة يظهر الرجل والمرأة عاريين تماما، وما لبثا ان ارتدايا ملابسهما من جديد.. الانسان انتزع طبيعته وابتعد عنها وتعلق بالحداثة التي اصبحت تتحكم بمصيره الى درجة انه اصبح يعيش داخل الآلات، حياته تتوزع بين التلفاز، والسيارة، وآلة التصبين، والهاتف… ببساطة اصبحت تكنولوجيا العصر تتحكم في مساره وأفكاره، بينما الكلب يتنقل من فصل الى فصل، داخل احياء المدينة وخارجها، في الطبيعة وفي البيت، وهو كما هو عار مجرد من كل شيء إلا الوفاء.
فيلم ”وداعا للغة” قصيدة سينمائية بمقاطع ذات ابعاد ثلاثية، جزأها المخرج الى مجاز وطبيعة وتاريخ، لكل جزء خاصية تميزه دون ترابط زمني ولا مكاني ولا فكري، حيث تتعدد الرؤى والابعاد، وتنفصل الصور والأشخاص، ما يجمع الكل التناقضات، وما يفرقهم اللغات، بطل الفيلم هو غودار نفسه الحاضر بفلسفته وفكره ولسانه ايضا، يتكلم بالكتب ويعبر بقلمه، قلمه هنا عدسته، يرفعها الى الفوق، ينزلها الى التحت، يتلاعب بها كيفما شاء، يفتحها لينقلنا عبرها داخل الكادر، ثم يغلقها ليتركنا نستشف ما يجري خارجه، يتنقل بها ومعها بين الزاويا بعشوائية مدروسة، يغوص بها داخل الانسان، يتركها تستسلم للحيوان/الكلب روكسي، تتقاذفها الكلمات والعبارات، تلك التي يربطها خيط طويل مشكل من الفلسفة والفن والسياسة والموسيقى والمسرح… حيث نلتقي بالكاتبة ماري شيلي الحاضرة بتاريخها وبداياتها الأولى وذلك عندما يروي غودار حكاية التقائها وعائلتها باللورد بايرون على ضفاف بحيرة ليمان سنة 1816، الأديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين حاضر ايضا بروايته “أرخبيل الغولاغ”، دوستويفسكي بروايته الشياطين 1، والاثنان معا حاضران ايضا بصورهما الشخصية في الهاتف الشخصي لإيزابيل، حيث كانت تبحث عنهما من خلال محرك البحث غوغل، دافيتسون كان يقرأ وايزابيل كانت تتصفح هاتفها، في المشهد التالي انعكست الصورة، دافيتسون يبحث داخل هاتفه بمعية الشاب صاحب الكُتب، يتبادلان الهواتف بصمت بينما صديقته تتصفح كتب متنوعة من الأدب الكلاسيكي… هي إذن تعابير أو رموز تعكس نظرة غودار الى الحياة المعاصرة وهو الكاتب المخرج المخضرم الذي عاصر القديم والجديد ايضا.
غودار سافر بنا عبر الزمن وبعث الشاعر الامريكي عزرا باوند من جديد، وكذلك الفيلسوف الفرنسي جاك إيلوي، وهتلر، وصمويل بيكيت، وبتهوفن، وجان أنويه… وغيرهم من الشخصيات التي تمثل الرسم والموسيقى والسياسة والادب والمسرح كل شيء كان مختلطا فوضويا لكن بجمال وإتقان، أما القصة فعبارة عن كلمات وصور، واللقطات عبارة عن أقوال متناثرة وأسئلة مركزة، خريف ثم ثلوج ومطر ورياح وصقيع، يعقبهما الربيع بأزهاره ووروده وبه يختتم الفيلم حصته، نعم حصته وكأننا امام درس جامع شامل خارج الزمان وداخله، وهو كذلك، والشاهد على كل هذه التعاقبات المتباينة الكلب روكسي.
كل هذه الفوضى تتخللها من حين الى آخر شاشة تلفاز كبيرة في صالون البيت، ربما لتفسر لنا دور الشخصيات في تركيبة الفيلم، أو لتعكس لنا رؤى غودار في مشاهده المسترسلة، وفي كلتا الحالتين يمكن اعتبارها البعد الرابع في هذا الفيلم، لنأخذ مثلا مشهد الجلسة الحوارية بين جوزيت ورفيقها في صالون البيت، ومن خلفهما مشهد من فيلم ”دكتور جيكل والسيد هايد” نسخة 1932 للمخرج روبن ماموليان، تعرضه شاشة التلفاز الضخمة، لمعرفة سياق هذا الاقحام المتعمد للمشهد الكلاسيكي داخل فيلم غودار، علينا ان نرجع أولا الى فلسفة الفيلم وماهيته، لنجد انه يتناول الطبيعة البشرية وعمقها السيكولوجي المنفلت بين الخير والشر، وهذا المشهد تزامن مع تحذير جوزيت لرفيقها ونصحه بأن يغادر وألا يبقى هنا، ليجيبها بانه ليس خائفا، لترد بان الكل يخاف اليوم، وهنا اشارة من غودار الى الطبيعة البشرية وتمزقها النفسي.
فيلم غودار أيقونة اخرى تنضاف الى أيقوناته السابقة، ويؤكد لنا بقوة ان الرجل مازال قادرا على العطاء وبسخاء في مجاله هذا، فرغم زحف التقنيات المتطورة واكتساحها لهذا ميدان الا ان ذلك لم ينتقص من تجربته، ولم يجعله يتخلى عن اسلوبه ولغته السينمائية المعروف بها، بل استغلها بطريقة ذكية وهذا ما شاهدناه اثناء استخدامه لتقنية الصورة الثلاثية الأبعاد، وجعلها وسيلة اخرى من وسائله لصدم المتلقي واخراجه من شرنقة الخمول الفكري، فمهما كتبنا عن الفيلم لن نوفيه حقه ولن نحيط بكل جوانبه المتشابكة، فهو لوحة فنية فريدة يصعب تحديد زواياها والاهتداء الى أسرارها حيث تتداخل فيها كل الاجناس والفنون، نهايتها صرخة وبدايتها صرخة ايضا.. البداية حرب، والنهاية ولادة.. مشاعر انسانية متدفقة بين الاولى والثانية، وأسئلة متراكمة تحاول فهم الانسان وتفكيك شخصيته.
فبقدرما يجعلنا هذا الفيلم نتوغل داخل انفسنا، يجعلنا نخاف منها أيضا، اما خلاصته فتحيلنا الى تحليل الصورة ومن يقف خلفها وقدرتهما معا على خلق وابداع فكر مواز لهما لدى المتلقي.